القضية رقم 58 لسنة 18 ق د – جلسة 5/ 7/ 1997
أحكام المحكمة الدستورية العليا – الجزء الثامن
من أول يوليو 1996 حتى آخر يونيو 1998 – صـ 731
جلسة 5 يوليو 1997
برئاسة السيد المستشار الدكتور/ عوض محمد عوض المر – رئيس المحكمة، وعضوية السادة المستشارين: الدكتور محمد إبراهيم أبو العينين ومحمد ولي الدين جلال ونهاد عبد الحميد خلاف وفاروق عبد الرحيم غنيم وعبد الرحمن نصير والدكتور عبد المجيد فياض، وحضور السيد المستشار الدكتور/ حنفي علي جبالي – رئيس هيئة المفوضين، وحضور السيد/ حمدي أنور صابر – أمين السر.
قاعدة رقم
القضية رقم 58 لسنة 18 قضائية "دستورية"
1 – دعوى دستورية "المصلحة الشخصية المباشرة: مناطها"
مناط المصلحة الشخصية المباشرة – وهي شرط لقبول الدعوى الدستورية – أن تتوافر علاقة
منطقية بينها وبين المصلحة التي يقوم بها النزاع الموضوعي – ذلك بأن يكون الحكم في
المسائل الدستورية لازماً للفصل في الطلبات الموضوعية المرتبطة بها.
2 – دعوى دستورية "مصلحة محتملة".
كفاية المصلحة المحتملة لقبول الدعوى الدستورية.
3 – جريمة "إثباتها" – افتراض البراءة "نقضه".
عدم قيام الجريمة التي أنشأها المشرع إلا بإثبات سلطة الاتهام لجميع عناصرها – لا ينحي
افتراض البراءة إلا حكم قضائي غدا باتاً في شأن نسبة الجريمة إلى فاعلها.
4 – اشتباه "معاملة".
من غير الجائز معاملة الشخص على ضوء اعتباره مجرد مشتبه فيه.
5 – قرائن قانونية "نطاقها" – حرية شخصية
انحصار عمل القرائن القانونية أصلاً في المسائل المدنية – تجاوزها إلى غيرها يجعل أمر
دستوريتها محدداً على ضوء مساسها بالحرية الشخصية.
6 – محاكمة منصفة – شرط الوسائل القانون السليمة "قيودها".
افتراض ارتباط ضمان الحق في محاكمة منصفة بالوسائل القانونية السليمة – مؤدى ذلك: أن
القوانين الجزائية يجب أن يكون مضمونها واضحاً جلياً كاشفاً عن حقيقتها ونطاق تطبيقها.
7 – اتهام جنائي – حرية شخصية
عدم مناقضة الاتهام الجنائي الحرية المنظمة – عدم جواز الإخلال بالموازين التي يتكافأ
بها مركز سلطة الاتهام مع حقوق المتهمين.
8 – دستور "حقوق: حماية – إدانة المتهم".
كفالة الدستور للحقوق المنصوص عليها فيه الحماية من جوانبها العملية – من غير الجائز
إدانة المتهم إلا بناء على أدلة تقتنع بها محكمة الموضوع.
9 – جرائم – سلطة تشريعية – قرائن قانونية
عدم جواز تدخل السلطة التشريعية بفرض قرائن قانونية في مجال إنشاء الجرائم وتحديد عقوباتها.
10- دوائر جمركية "حدودها الخارجية".
ثمة قاعدة مبدئية مفادها أن البضائع التي يتم التعامل فيها فيما وراء الحدود الخارجية
للدوائر الجمركية يفترض مرورها عبرها وتحصيل مكوسها.
11 – جريمة التهريب الجمركي.
هذه الجريمة من الجرائم العمدية التي لا يجوز افتراضها.
12 – أصل البراءة "افتراضه".
أصل البراءة مفترض في كل متهم – عدم هدم هذا الأصل إلا بدليل جازم – انبساط هذا الأصل
على الدعوى الجنائية حتى في خلال مراحلها التي تسبقها وتؤثر فيها.
13 – دستور "ملكية خاصة".
كفالة الدستور حماية الملكية لكل فرد وطنياً كان أم أجنبياً.
14 – ملكية خاصة "قيودها".
عدم جواز المساس بالملكية الخاصة، أو تقييد مباشرة الحقوق المتفرعة عنها في غير ضرورة
تقتضيها وظيفتها الاجتماعية.
15 – تشريع "نص المادة 15 من القانون رقم 68 لسنة 1976 بشأن الرقابة على المعادن الثمينة:
حراسة".
القيود التي فرضها هذا النص على أموال المخاطبين بأحكامه تنال من ملكيتهم – هذه القيود
في مضمونها وأثرها صورة من صور الحراسة التي يفرضها المشرع على الأموال بعيداً عن صدور
حكم قضائي بها.
1 – إن المصلحة الشخصية المباشرة – وهي شرط لقبول الدعوى الدستورية – مناطها أن تتوافر
علاقة منطقية بينها وبين المصلحة التي يقوم بها النزاع الموضوعي، وذلك بأن يكون الحكم
في المسائل الدستورية لازماً للفصل في الطلبات المرتبطة بها، والمطروحة أمام محكمة
الموضوع؛ وكان جوهر الطعن الماثل ينصب حول تقديم المدعي مباشرة إلى مصلحة دمغ المصوغات
والموازين، مشغولات ذهبية بقصد فحصها وتحديد عيارها ودمغها، واعتباره مهرباً إذا لم
يُثْبت دخولها إلى البلاد بطريق مشروع، فإن مصلحته تنحصر في هذا النطاق ولا تتعداه
إلى غيره من أجزاء المادة 15 المطعون عليها.
2 – القول بانتفاء المصلحة الشخصية المباشرة للمدعي تأسيساً على أن لم يقدم أية مصوغات
إلى الجهة الإدارية المختصة لدمغها، ولم يطبق عليه النص المطعون فيه بالتالي، مردود:
بأن المصلحة في الدعوى كما تتوافر إذا كانت لصاحبها فيها مصلحة قائمة يقرها القانون،
فإن مصلحته المحتملة بشأنها تكفي لقبولها؛ وكان النص الطعون فيه يحول دون دمغ المشغولات
الذهبية التي لا يقيم المدعي الدليل على دخولها البلاد بطريق مشروع بما يخرجها عملاً
من دائرة التعامل، فإن توقي هذا الضرر المحدق، هو مما تقوم به مصلحته الشخصية في الدعوى
الماثلة.
3، 4 – أن لكل جريمة ينشئها المشرع أركانها التي لا تقوم بكامل عناصرها إلا إذا أثبتتها
سلطة الاتهام من خلال تقديمها لأدلتها والإقناع بها بما يزيل كل شك معقول حولها، ذلك
أنها تعمد من خلال اتهامها لشخص بجريمة تدعيها، إلى خلق واقع جديد يناقض افتراض البراءة
باعتباره تعبيراً عن الفطرة التي جبل الإنسان عليها، وصار متصلاً بها منذ ميلاده، فلا
يزحزحها اتهام، ولا تنقضها إرادة أياً كان وزنها. إنما ينحيها حكم قضائي تعلق بجريمة
بذاتها، وغدا باتاً في شأن نسبتها إلى فاعلها، بعد أن قام الدليل جلياً قاطعاً على
توافر أركانها التي نص عليها المشرع فإذا كان الشخص مشتبهاً فيه؛ فإن معاملته على ضوء
هذا الاعتبار وحده بما يجرده من حقوق كفلها الدستور، لا يكون جائزاً.
5 – القرائن القانونية – حتى ما كان منها قاطعاً – هي التي يقيمها المشرع مقدماً ويعممها
بعد أن يصوغها على ضوء ما يكون راجح الوقوع عملاً؛ وكان المشرع بتقريره لها إنما يتوخى
إعفاء الخصم من التدليل على واقعة بذاتها بعد أن أحل غيرها محلها، وأقامها بديلاً عنها،
ليتحول الدليل إليها، فإذا أثبتها الخصم، اعتبر ذلك إثباتاً للواقعة الأصلية بحكم القانون.
فلا تكون القرائن القانونية بذلك إلا إثباتاً غير مباشر ينحصر مجال عملها أصلاً في
المسائل المدنية، فإن تعدتها إلى غيرها، صار أمر دستوريتها محدداً على ضوء مساسها بالحرية
الشخصية، وإخلالها بمقوماتها.
6 – إن ضمان الحق في محاكمة منصفة على ما تنص عليه المادة 67 من الدستور، يفترض ارتباطها
بالوسائل القانونية السليمة – الموضوعية منها والإجرائية – باعتبارها إطاراً لها، يعارض
إهدار الحق في الحياة، وكذلك كل تقييد للحرية عن طريق أعمال تحكمية تأتيها الدولة من
خلال مباشرتها لسلطاتها. فالقيود الموضوعية التي يفرضها شرط الوسائل القانونية السليمة،
تتعلق بحدود ولاية السلطة التشريعية في مجال إقرار تشريعاتها العقابية إذ لا يجوز للمشرع
أن يجرم غير الأفعال التي تربطها علاقة منطقية بتلك الأضرار الاجتماعية التي يقوم الدليل
جلياً على تشخيصها وتوكيدها .Identifiable and ascertainable social harm
ولا كذلك الوسائل القانونية السليمة في جوانبها الإجرائية، بما تفرضه. من قيود على
القوانين الجزائية في شكلها ولغتها، The form and language of criminal legislation،
وهي بعد قيود مؤداها أن هذه القوانين لا يجوز إقرارها إلا إذا كان مضمونها كاشفاً عن
حقيقتها ونطاق تطبيقها، ومتضمناً إخطاراً كافياً في شأن دلالتها، فلا يجوز أن يلاحق
أحد عن أفعال لم يجرمها المشرع؛ ولا عن أفعال أغفل تقرير عقوباتها التي لا ينفصل التجريم
عنها؛ ولا أن يجهل المشرع بالأفعال التي أثمها، فلا يكون بيانها جلياً، ولا تحديدها
قاطعا أو فهمها مستقيماً، بل منبهماً خافياً. ومن ثم يلتبس معناها على أوساط الناس
الذين لا يتميزون بعلو مداركهم ولا يتسمون بانحدارها، إنما يكونون بين ذلك قواماً،
فلا يقفون من النصوص العقابية على دلالتها أو نطاق تطبيقها، بل يكون حدسهم طريقاً إلى
التخبط في شأن صحيح مضمونها ومراميها، بعد أن أهمل المشرع في ضبطها بما يحدد مقاصده
منها بصورة ينحسم بها كل جدل حول حقيقتها، مما يفقد هذه النصوص وضوحها ويقينها، وهما
متطلبان فيها، فلا تقدم للمخاطبين بها إخطاراً معقولاً fair notice بما ينبغي عليهم
أن يدعوه أو يأتوه من الأفعال التي نهاهم المشرع عنها أو طلبها منهم. وهو ما يعني أن
يكون تطبيق تلك النصوص من قبل القائمين على تنفيذها عملاً انتقائياً، محدداً على ضوء
أهوائهم ونزواتهم الشخصية، ومبلوراً بالتالي خياراتهم التي يتصيدون بها من يريدون،
فلا تكون إلا شراكاً لا يأمن حد معها مصيراً، وليس لأيهم بها نذيراً.
7 – الاتهام الجنائي لا يناقض الحرية المنظمة، ولا يجوز الفصل فيه بعيداً عن قيم الحق
والعدل الغائرة جذورها في تلك القواعد المبدئية التي ألتزمتها الأمم المتحضرة وارتضتها
سلوكاً لها، حتى في أكثر الجرائم خطورة وأسوئها وقعاً. وهو ما يعني أن الحرية الشخصية
لا يجوز التضحية بها في غير ضرورة، وأن الموازين الدقيقة التي يتكافأ بها مركز سلطة
الاتهام مع حقوق متهميها لا يجوز الإخلال بها، وعلى الأخص ما تعلق منها بحق المتهم
في أن يكون مدركاً للتهمة المنسوبة إليه، واعياً بأبعادها، متصلاً بحقائقها، بصيراً
بأدلتها، وأن يمثل بشخصه عند الفصل فيها، وأن يعان على دفعها بمحام يدير الدفاع عنه،
فلا يقبل من أدلتها إلا ما يكون منها جائزاً قانوناً، ولا يفرط في تلك الوسائل القانونية
الإلزامية التي يتمكن على ضوئها من استدعاء شهوده، ونقض أقوال شهود الاتهام بعد مجابهتها،
فلا يستقيم بنيانها، بل يختل ترابطها.
8 – إن الدستور يكفل للحقوق التي نص عليها في صلبه، الحماية من جوانبها العملية لا
من معطياتها النظرية؛ وكان ذلك مؤداه أن القواعد الجوهرية التي تدار العدالة الجنائية
على ضوئها، لا يجوز تطبيقها إخلالاً بالأغراض النهائية للقوانين الجزائية، التي ينافيها
أن يدان المتهمون بغير جريرة، أو بناء على أدلة لا تجيل محكمة الموضوع بصرها فيها،
ولا تبلغ منها قوة الإقناع التي تطمئن معها إلى نسبة الجريمة لفاعلها، إذ عليها وحدها
أن تقول كلمتها بشأنها. ولا يجوز لجهة أياً كان وزنها، أن تفرض عليها مفهوماً محدداً
لدليل بعينه، بل يتعين أن يكون مرد الأمر عندها إلى ما استخلصته هي من وقائع الدعوى،
وحصلته من أوراقها غير مقيدة بوجهة نظر النيابة العامة أو الدفاع بشأنها.
9 – اختصاص السلطة التشريعية في مجال إنشاء الجرائم وتحديد عقوباتها لا يخولها التدخل
في المجال الجنائي لفرض قرائن قانونية تنفصل عن واقعها، ولا تربطها علاقة منطقية بالنتائج
التي رتبتها عليها، إذ لا يعدو ذلك منها أن يكون إحلالاً لإرادتها محل السلطة القضائية،
لتنحيها عن وظائفها الأصلية في تحقيق الدعوى الجنائية وتقدير أدلتها في شأن جريمة بذاتها
يدعى ارتكابها، ولا يتصور إسنادها لفاعلها إلا بعد توافر ركنيها بالشروط التي تطلبها
المشرع فيهما.
10 – تقديم مشغولات ذهبية مباشرة إلى الجهة الإدارية المختصة من أجل دمغها، لا يفيد
بالضرورة عبورها الحدود الإقليمية لجمهورية مصر العربية عن غير طريق منافذها التي ترصد
في محيطها البضائع الواردة، وتقدر مكوسها. كذلك فإن عدم تقديم حائزها الدليل على دخولها
إلى مصر بطريق مشروع، لا يفيد سبق تهريبها بنشاط أتاه، ولا علمه بتهريبها لو أن غيره
كان مسئولاً جنائياً عن التحايل على النظم الجمركية المعمول بها. إنما هي السلطة التشريعية
ذاتها التي تتخذ بنفسها من احتمال الوقوع في التهريب، سنداً لفرض قيود على حرية تداول
الأموال التي تقدر تعلقها أو ارتباطها بمحل هذه الجريمة؛ حال أن المعادن الثمينة شأن
غيرها من البضائع الواردة، تحكمها قاعدة مبدئية مفادها أن البضائع التي يتم التعامل
فيها فيما وراء الحدود الخارجية للدوائر الجمركية، يفترض مرورها عبرها، وتحصيل مكوسها
أثناء وجودها في نطاقها، ثم خروجها منها بعد استيفائها لإجراءاتها.
11 – جريمة التهريب الجمركي من الجرائم العمدية التي لا يجوز افتراضها، ولا تتوافر
أركانها إلا بإرادة ارتكابها ولا تعتبر الشبهة التي تحيطها، عملاً مادياً أتاه جان؛
ولا اتهاماً جنائياً تتساند فيه القرائن، بل تصوراً راجحاً أو مرجوحاً، وهي بذلك
إلى الظن أدخل وإلى التوهم أدنى، ومن اليقين أبعد. ولا محل بالتالي لإسنادها إلى من
يتعاملون في بضائع فيما وراء الحدود الخارجية للدائرة الجمركية، ذلك أن نقلها بعد
خروجها منها، وكذلك حيازتها ممن لا يقوم الدليل على اتصالهم بتهريبها، عمل جائز
قانوناً. والقول باحتمال أن يكون حائزها عندئذ مهرباً، إدعاء بلا دليل، لا ينقض افتراض البراءة، ولا
يجهض ما هو مفترض من سبق أداء مكوسها.
12 – أصل البراءة مفترض في كل متهم، فلا يجوز أن يهدم إلا بدليل جازم مستنبط من عيون
الأوراق وبموازين الحق، وعن بصر وبصيرة؛ وكان أصل البراءة يتصل بالتهمة الجنائية من
ناحية إثباتها، ولا يتعلق بطبيعة أو خطورة الجريمة موضوعها، ولا بنوع أو قدر عقوبتها؛
وكان هذا الأصل ينبسط على الدعوى الجنائية حتى خلال المراحل التي تسبقها وتؤثر فيها؛
وكان النص المطعون فيه قد أجاز فرض قيود في شأن المعادن الثمينة مؤداها غل يد حائزيها
– الذين لا يقيمون الدليل على دخولها إلى مصر بطريق مشروع – عن تداولها سواء من خلال
تحفظ جهات الاختصاص عليها، أو بمنعها أصحابها من التعامل فيها؛ وكان المفترض في هؤلاء
الحائزين أنهم أسوياء استصحاباً لأصل براءتهم، شأنهم في ذلك شأن غيرهم من المواطنين
الذين يظلهم جميعاً هذا الأصل، فلا يُنْقض إلا بحكم يكون باتاً، فإن هذا النص يكون
بذلك متضمناً تمييزاً غير مبرر بين أولئك وهؤلاء، ومخالفاً بالتالي لنص المادة 40 من
الدستور.
13 – الدستور – إعلاء من جهته لدور الملكية الخاصة، وتوكيداً لإسهامها في صون الأمن
الاجتماعي – كفل حمايتها لكل فرد – وطنياً كان أم أجنبياً – ولم يجز المساس بها إلا
على سبيل الاستثناء، وفي الحدود التي يقتضيها تنظيمها، باعتبارها عائدة – في الأعم
من الأحوال – إلى جهد صاحبها، بذل من أجلها الوقت والعرق والمال، وحرص بالعمل المتواصل
على إنمائها، وأحاطها بما قدره ضرورياً لصونها.
14 – السلطة التي يملكها المشرع في مجال تنظيم الملكية لضبطها وفقاً لوظيفتها الاجتماعية،
حدها قواعد الدستور؛ فلا يجوز أن ينال المشرع من عناصرها؛ ولا أن يغير من طبيعتها أو
يجردها من لوازمها؛ ولا أن يفصلها عن أجزائها أو يدمر أصلها؛ أو يقيد من مباشرة الحقوق
التي تتفرع عنها في غير ضرورة تقتضيها وظيفتها الاجتماعية. ودون ذلك تفقد الملكية الخاصة
ضماناتها الجوهرية التي كفلها الدستور بالمادتين 32 و34، ويكون العدوان عليها غصباً
وافتئاناً على كيانها، أدخل إلى مصادرتها.
15 – القيود التي فرضها النص المطعون فيه على أموال المخاطبين بأحكامه، ليس مدخلها
الاتفاق، بل مصدرها نص القانون. وهي بعد لا تقتصر على حرمانهم من إدارة أموالهم، بل
تتعداها إلى منعهم من التعامل فيها. وفي كل ذلك تنال هذه القيود من ملكيتهم، وتقوض
أهم خصائصها لتكون – في مضمونها وأثرها – صورة من صور الحراسة يفرضها المشرع عليها
-بعيداً عن صدور حكم قضائي بها – بالمخالفة لنص المادة 34 من الدستور التي تتغيا أن
تكون الملكية لأصحابها يباشرون عليها كل الحقوق المتفرع عنها، لتظل أيديهم متصلة بها،
لا تُغل عنها، ولا ترد عن حفظها وإدارتها، بل يحيط ذووها بها، وبأشكال من التعامل يقدرون
ملاءمة الدخول فيها؛ وكان هذان الإجراءان – وهما التحفظ على المشغولات الذهبية إلى
أن تباشر جهة الاختصاص تصرفها فيها – مترتبين على افتراض المشرع تهريبها، وينتهيان
إلى غل يد مالكها عن إدارتها والتعامل فيها، فإنهما بذلك يمثلان عدواناً على الملكية
الخاصة التي كفل الدستور صونها.
الإجراءات
بتاريخ 12 يونيو سنة 1996، أودع المدعي صحيفة هذه الدعوى قلم كتاب
المحكمة، طالباً الحكم بعدم دستورية نص المادة 15 من القانون رقم 68 لسنة 1976 بشأن
الرقابة على المعادن الثمينة.
وقدمت هيئة قضايا الدولة مذكرة طلبت فيها الحكم بعدم قبول الدعوى.
وبعد تحضير الدعوى، أودعت هيئة المفوضين تقريراً برأيها.
ونظرت الدعوى على النحو المبين بمحضر الجلسة، وقررت المحكمة إصدار الحكم فيها بجلسة
اليوم.
المحكمة
بعد الاطلاع على الأوراق، والمداولة.
حيث إن الوقائع – على ما يبين من صحيفة الدعوى وسائر الأوراق – تتحصل في أن المدعي
كان قد أقام الدعوى رقم 1615 لسنة 1996 مدني أمام محكمة جنوب القاهرة الابتدائية ضد
المدعى عليهما الثالث والرابع؛ بطلب الحكم بإلزامهما بدمغ المشغولات الذهبية التي قدمها
إلى مصلحة دمغ المصوغات والموازين – بالدمغة المصرية مقابل أداء الرسوم المقررة قانوناً،
تأسيساً على أن هذه المصلحة امتنعت عن دمغها لعدم تقديمه الأوراق التي تثبت سداده ما
هو مستحق عليها من ضرائب ورسوم جمركية. وقد دفع المدعي – أثناء نظر دعواه الموضوعية
– بعدم دستورية المادة 15 من القانون رقم 68 لسنة 1976 بشأن الرقابة على المعادن الثمينة،
وإذ قدرت محكمة الموضوع جدية الدفع، فقد صرحت للمدعي برفع دعواه الدستورية، فأقام الدعوى
الماثلة.
وحيث إن القانون رقم 68 لسنة 1976 بشأن الرقابة على المعادن الثمينة – المعدل بالقانون
رقم 34 لسنة 1977 والقانون 3 لسنة 1994 – بعد أن حدد بمادته الأولى المعادن الثمينة
والمشغولات والأصناف والأحجار التي تسري عليها أحكامه، نصت المادة 15 من هذا القانون
على انه إذا كانت المعادن وغيرها مما هو منصوص عليه فيه، واردة من الخارج، فلا يجوز
سحبها من الجمارك أو البريد إلا إذا كانت مدموغة بدمغة أجنبية معترف بصحتها وفقاً للمادة
الثانية من هذا القانون، فإذا قدمت إلى مصلحة دمغ المصوغات والموازين مباشرة، وجب على
مقدم هذه الأصناف إثبات دخولها البلاد بطريقة مشروعة، فإذا لم يتم ذلك وجب على المصلحة
قبل قيامها بفحصها وتحديد عيارها ودمغها، إبلاغ الأمر لجهات الاختصاص مع التحفظ على
الأصناف المشار إليها وإثبات شخصية مقدمها لحين التصرف فيها بمعرفة الجهات المذكورة.
وقد جاء بالمذكرة الإيضاحية لهذا القانون، أنه نظراً لورود مشغولات أجنبية مع مواطنين
مصريين إلى مصلحة دمغ المصوغات والموازين لفحصها ودمغها مما يثير الشبهات حول مصدرها
ومما يحتمل معه "ارتكاب جريمة من جرائم التهريب الجمركي لعدم ورودها من الخارج عن طريق
الجمرك أو البريد"، وحرصاً على الصالح العام، فقد نصت المادة 15 من المشروع على أنه
يجب على المصلحة المذكورة إبلاغ جهات الاختصاص فوراً بذلك، مع التحفظ على كل ما يقدم
إليها من هذا القبيل، وإثبات شخصية مقدمها لحين التصرف فيها بمعرفة هذه الجهات.
وحيث إن المصلحة الشخصية المباشرة – وهي شرط لقبول الدعوى الدستورية – مناطها أن تتوافر
علاقة منطقية بينها وبين المصلحة التي يقوم بها النزاع الموضوعي، وذلك بأن يكون الحكم
في المسائل الدستورية لازماً للفصل في الطلبات المرتبطة بها، والمطروحة أمام محكمة
الموضوع؛ وكان جوهر الطعن الماثل ينصب حول تقديم المدعي مباشرة إلى مصلحة دمغ المصوغات
والموازين، مشغولات ذهبية بقصد فحصها وتحديد عيارها ودمغها، واعتباره مهرباً إذا لم
يُثبت دخولها إلى البلاد بطريق مشروع، فإن مصلحته تنحصر في هذا النطاق ولا تتعداها
إلى غير من أجزاء المادة 15 المطعون عليها.
وحيث إن ما تنعاه هيئة قضايا الدولة من انتفاء المصلحة الشخصية المباشرة للمدعي تأسيساً
على أن لم يقدم أية مصوغات إلى الجهة الإدارية المختصة لدمغها، ولم يطبق عليه النص
المطعون فيه بالتالي، مردود أولاً: بأن المصلحة في الدعوى كما تتوافر إذا كانت لصاحبها
فيها مصلحة قائمة يقرها القانون، فإن مصلحته المحتملة بشأنها تكفي لقبولها؛ وكان النص
الطعون فيه يحول دون دمغ المشغولات الذهبية التي لا يقيم المدعي الدليل على دخولها
البلاد بطريق مشروع بما يخرجها عملاً من دائرة التعامل، فإن توقي هذه الضرر المحدق،
هو مما تقوم به مصلحته الشخصية في الدعوى الماثلة.
ومردود ثانياً: بأن النزاع الموضوعي يدور حول امتناع الجهة الإدارية المختصة عن فحص
مشغولات ذهبية وتحديد عيارها ودمغها، وطلب المدعي إلزامها بذلك، وإذ كانت محكمة الموضوع
هي التي تختص دون غيرها بتحقيق هذه الواقعة التي تعلق بها الدفع بعدم الدستورية، فإن
إثارة الجدل حول صحتها أمام المحكمة الدستورية العليا، مما يجاوز حدود ولايتها.
وحيث إن المدعي ينعي على المادة 15 مخالفتها للدستور من عدة أوجه:
أولها: إحداثها لقرينة قانونية حاصلها أن عدم إثبات ذي الشأن دخول البضائع إلى البلاد
بطريقة مشروعة، يجعل منه مهرباً. والقرينة التي يتضمنها النص المطعون فيه تتعلق ببضائع
أجنبية يجرى التعامل فيها بعد خروجها من الدائرة الجمركية التي ترصد في محيطها البضائع
الواردة، وتتم إجراءاتها، وتقدر ضرائبها، باعتبار أن ذلك هو الأصل فيها، وأن تهريبها
لا يكون إلا بدليل تقدمه الإدارة الجمركية ذاتها.
ثانيها: أن النص المطعون فيه لم يحدد ماهية الطرق غير المشروعة التي تدخل المعادن وغيرها
من النفائس إلى البلاد من خلالها. وأطلق هذا النص كذلك عبارة "جهات الاختصاص" دون تحديد
لها، واعتبر عدم إثبات دخول البضائع بطريقة مشروعة، جريمة لم يحدد وصفها ولا أركانها،
بما يناقض حكم المادة 66 من الدستور.
وحيث إن مؤدى النص المطعون فيه أن كل حائز لمشغولات ذهبية لا يقدم بشأنها ما يدل على
دخولها إلى البلاد بطريق مشروع، يعتبر مشتبهاً في ارتكابه لجريمة تهريب جمركي.
وحيث إن لكل جريمة ينشئها المشرع أركانها التي لا تقوم بكامل عناصرها إلا إذا أثبتتها
سلطة الاتهام من خلال تقديمها لأدلتها والإقناع بها بما يزيل كل شك معقول حولها، ذلك
أنها تعمد من خلال اتهامها لشخص بجريمة تدعيها، إلى خلق واقع جديد يناقض افتراض البراءة
باعتباره تعبيراً عن الفطرة التي جبل الإنسان عليها، وصار متصلاً بها منذ ميلاده، فلا
يزحزحها اتهام، ولا تنقضها إرادة أياً كان وزنها. إنما ينحيها حكم قضائي تعلق بجريمة
بذاتها، وغدا باتاً في شأن نسبتها إلى فاعلها، بعد أن قام الدليل جلياً قاطعاً على
توافر أركانها التي نص عليها المشرع. فإذا كان الشخص مشتبهاً فيه؛ فإن معاملته على
ضوء هذا الاعتبار وحده بما يجرده من حقوق كفلها الدستور، لا يكون جائزاً.
وحيث إن القرائن القانونية – حتى ما كان منها قاطعاً – هي التي يقيمها المشرع مقدماً
ويعممها بعد أن يصوغها على ضوء ما يكون راجح الوقوع عملاً؛ وكان المشرع بتقريره لها
إنما يتوخى إعفاء الخصم من التدليل على واقعة بذاتها بعد أن أحل غيرها محلها، وأقامها
بديلاً عنها، ليتحول الدليل إليها، فإذا أثبتها الخصم، اعتبر ذلك إثباتاً للواقعة الأصلية
بحكم القانون. فلا تكون القرائن القانونية بذلك إلا إثباتاً غير مباشر ينحصر مجال عملها
أصلاً في المسائل المدنية، فإن تعدتها إلى غيرها، صار أمر دستوريتها محدداً على ضوء
مساسها بالحرية الشخصية، وإخلالها بمقوماتها.
وحيث إن ضمان الحق في محاكمة منصفة على ما تنص عليه المادة 67 من الدستور، يفترض ارتباطها
بالوسائل القانونية السليمة – الموضوعية منها والإجرائية – باعتبارها إطاراً لها، يعارض
إهدار الحق في الحياة، وكذلك كل تقييد للحرية عن طريق أعمال تحكمية تأتيها الدولة من
خلال مباشرتها لسلطاتها. فالقيود الموضوعية التي يفرضها شرط الوسائل القانونية السليمة،
تتعلق بحدود ولاية السلطة التشريعية في مجال إقرار تشريعاتها العقابية إذ لا يجوز للمشرع
أن يجرم غير الأفعال التي تربطها علاقة منطقية بتلك الأضرار الاجتماعية التي يقوم الدليل
جلياً على تشخيصها وتوكيدها .Identifiable and ascertainable social harm
ولا كذلك الوسائل القانونية السليمة في جوانبها الإجرائية، بما تفرضه. من قيود على
القوانين الجزائية في شكلها ولغتها، The form and language of criminal legislation،
وهي بعد قيود مؤداها أن هذه القوانين لا يجوز إقرارها إلا إذا كان مضمونها كاشفاً عن
حقيقتها ونطاق تطبيقها، ومتضمناً إخطاراً كافياً في شأن دلالتها، فلا يجوز أن يلاحق
أحد عن أفعال لم يجرمها المشرع؛ ولا عن أفعال أغفل تقرير عقوباتها التي لا ينفصل التجريم
عنها؛ ولا أن يجهل المشرع بالأفعال التي أثمها، فلا يكون بيانها جلياً، ولا تحديدها
قاطعاً أو فهمها مستقيماً، بل منبهماً خافياً. ومن يلتبس معناها على أوساط الناس الذين
لا يتميزون بعلو مداركهم ولا يتسمون بانحدارها، إنما يكونون بين ذلك قواماً، فلا يقفون
من النصوص العقابية على دلالتها أو نطاق تطبيقها، بل يكون حدسهم طريقاً إلى التخبط
في شأن صحيح مضمونها ومراميها، بعد أن أهمل المشرع في ضبطها بما يحدد مقاصده منها بصورة
ينحسم بها كل جدل حول حقيقتها، مما يفقد هذه النصوص وضوحها ويقينها، وهما متطلبان فيها،
فلا تقدم للمخاطبين بها إخطاراً معقولاً fair notice بما ينبغي عليهم أن يدعوه أو يأتوه
من الأفعال التي نهاهم المشرع عنها أو طلبها منهم. وهو ما يعني أن يكون تطبيق تلك النصوص
من قبل القائمين على تنفيذها عملاً انتقائياً، محدداً على ضوء أهوائهم ونزواتهم الشخصية،
ومبلوراً بالتالي خياراتهم التي يتصيدون بها من يريدون، فلا تكون إلا شراكاً لا يأمن
أحد معها مصيراً، وليس لأيهم بها نذيراً.
وحيث إن الاتهام الجنائي لا يناقض الحرية المنظمة، ولا يجوز الفصل فيه بعيداً عن قيم
الحق والعدل الغائرة جذورها في تلك القواعد المبدئية التي ألتزمتها الأمم المتحضرة
وارتضتها سلوكاً لها، حتى في أكثر الجرائم خطورة وأسوئها وقعاً. وهو ما يعني أن الحرية
الشخصية لا يجوز التضحية بها في غير ضرورة، وأن الموازين الدقيقة التي يتكافأ بها مركز
سلطة الاتهام مع حقوق متهميها لا يجوز الإخلال بها، وعلى الأخص ما تعلق منها بحق المتهم
في أن يكون مدركاً للتهمة المنسوبة إليه، واعياً بأبعادها، متصلاً بحقائقها، بصيراً
بأدلتها، وأن يمثل بشخصه عند الفصل فيها، وأن يُعان على دفعها بمحام يدير الدفاع عنه،
فلا يقبل من أدلتها إلا ما يكون منها جائزاً قانوناً، ولا يفرط في تلك الوسائل القانونية
الإلزامية التي يتمكن على ضوئها من استدعاء شهوده، ونقض أقوال شهود الاتهام بعد مجابهتها،
فلا يستقيم بنيانها، بل يختل ترابطها.
وحيث إن اختصاص السلطة التشريعية بإقرار القواعد القانونية ابتداء، أو تفويض السلطة
التنفيذية في إصدارها في الحدود التي بينها الدستور، لا يخول أيتهما العدوان على اختصاص
عهد به الدستور إلى السلطة القضائية وقصره عليها، وإلا كان هذا افتئاتاً على ولايتها،
وتقويضاً لاستقلالها.
وحيث إن الدستور يكفل للحقوق التي نص عليها في صلبه، الحماية من جوانبها العملية لا
من معطياتها النظرية؛ وكان ذلك مؤداه أن القواعد الجوهرية التي تدار العدالة الجنائية
على ضوئها، لا يجوز تطبيقها إخلالاً بالأغراض النهائية للقوانين الجزائية، التي ينافيها
أن يدان المتهمون بغير جريرة، أو بناء على أدلة لا تجيل محكمة الموضوع بصرها فيها،
ولا تبلغ منها قوة الإقناع التي تطمئن معها إلى نسبة الجريمة لفاعلها، إذ عليها وحدها
أن تقول كلمتها بشأنها. ولا يجوز لجهة أياً كان وزنها، أن تفرض عليها مفهوماً محدداً
لدليل بعينه، بل يتعين أن يكون مرد الأمر عندها إلى ما استخلصته هي من وقائع الدعوى،
وحصلته من أوراقها غير مقيدة بوجهة نظر النيابة العامة أو الدفاع بشأنها.
وحيث إن اختصاص السلطة التشريعية في مجال إنشاء الجرائم وتحديد عقوباتها لا يخولها
التدخل في المجال الجنائي لفرض قرائن قانونية تنفصل عن واقعها، ولا تربطها علاقة منطقية
بالنتائج التي رتبتها عليها، إذ لا يعدو ذلك منها أن يكون إحلالاً لإرادتها محل السلطة
القضائية، لتنحيها عن وظائفها الأصيلة في تحقيق الدعوى الجنائية وتقدير أدلتها في شأن
جريمة بذاتها يدعى ارتكابها، ولا يتصور إسنادها لفاعلها إلا بعد توافر ركنيها بالشروط
التي تطلبها المشرع فيهما.
وحيث إن مؤدى النص المطعون فيه – في أجزائه التي تتعلق بها مصلحة المدعي – أن التقدم
مباشرة إلى الجهة الإدارية المختصة بمشغولات ذهبية لفحصها وتحديد عيارها ودمغها، يفترض
دخولها مصر عن غير طريق البريد أو المنافذ الجمركية، وهو ما يعني تهريبها إليها.
وحيث إن تقديم مشغولات ذهبية مباشرة إلى الجهة الإدارية المختصة من أجل دمغها، لا يفيد
بالضرورة عبورها الحدود الإقليمية لجمهورية مصر العربية عن غير طريق منافذها التي ترصد
في محيطها البضائع الواردة، وتقدر مكوسها. كذلك فإن عدم تقديم حائزها الدليل على دخولها
إلى مصر بطريق مشروع، لا يفيد سبق تهريبها بنشاط أتاه، ولا علمه بتهريبها لو أن غيره
كان مسئولاً جنائياً عن التحايل على النظم الجمركية المعمول بها. إنما هي السلطة التشريعية
ذاتها التي تتخذ بنفسها من احتمال الوقوع في التهريب، سنداً لفرض قيود على حرية تداول
الأموال التي تقدر تعلقها أو ارتباطها بمحل هذه الجريمة؛ حال أن المعادن الثمينة شأنها
شأن غيرها من البضائع الواردة، تحكمها قاعدة مبدئية مفادها أن البضائع التي يتم التعامل
فيها فيما وراء الحدود الخارجية للدوائر الجمركية، يفترض مرورها عبرها، وتحصيل مكوسها
أثناء وجودها في نطاقها، ثم خروجها منها بعد استيفائها لإجراءاتها.
يؤيد ذلك أن جريمة التهريب الجمركي من الجرائم العمدية التي لا يجوز افتراضها، ولا
تتوافر أركانها إلا بإرادة ارتكابها ولا تعتبر الشبهة التي تحيطها، عملاً مادياً أتاه
جان؛ ولا اتهاماً جنائياً تتساند فيه القرائن، بل تصوراً راجحاً أو مرجوحاً، وهي بذلك
إلى الظن أدخل، وإلى التوهم أدنى، ومن اليقين أبعد. ولا محل بالتالي لإسنادها إلى من
يتعاملون في بضائع فيما وراء الحدود الخارجية للدائرة الجمركية، ذلك أن نقلها بعد خروجها
منها، وكذلك حيازتها ممن لا يقوم الدليل على اتصالهم بتهريبها، عمل جائز قانوناً. والقول
باحتمال أن يكون حائزها عندئذ مهرباً، إدعاء بلا دليل، لا ينقض افتراض البراءة، ولا
يجهض ما هو مفترض من سبق أداء مكوسها.
وحيث إن أصل البراءة مفترض في كل متهم، فلا يجوز أن يهدم إلا بدليل جازم مستنبط من
عيون الأوراق وبموازين الحق، وعن بصر وبصيرة؛ وكان أصل البراءة يتصل بالتهمة الجنائية
من ناحية إثباتها، ولا يتعلق بطبيعة أو خطورة الجريمة موضوعها، ولا بنوع أو قدر عقوبتها؛
وكان هذا الأصل ينبسط على الدعوى الجنائية حتى خلال المراحل التي تسبقها وتؤثر فيها؛
وكان النص المطعون فيه قد أجاز فرض قيود في شأن المعادن الثمينة مؤداها غل يد حائزيها
– الذين لا يقيمون الدليل على دخولها إلى مصر بطريق مشروع – عن تداولها سواء من خلال
تحفظ جهات الاختصاص عليها، أو بمنعها أصحابها من التعامل فيها؛ وكان المفترض في هؤلاء
الحائزين أنهم أسوياء استصحاباً لأصل براءتهم، شأنهم في ذلك شأن غيرهم من المواطنين
الذين يظلهم جميعاً هذا الأصل، فلا يُنقض إلا بحكم يكون باتاً، فإن هذا النص يكون بذلك
متضمناً تمييزاً غير مبرر بين أولئك وهؤلاء، ومخالفاً بالتالي لنص المادة 40 من الدستور.
وحيث إن الدستور – إعلاء من جهته لدور الملكية الخاصة، وتوكيداً لإسهامها في صون الأمن
الاجتماعي – كفل حمايتها لكل فرد – وطنياً كان أم أجنبياً – ولم يجز المساس بها إلا
على سبيل الاستثناء، وفي الحدود التي يقتضيها تنظيمها، باعتبارها عائدة – في الأعم
من الأحوال – إلى جهد صاحبها، بذل من أجلها الوقت والعرق والمال، وحرص بالعمل المتواصل
على إنمائها، وأحاطها بما قدره ضرورياً لصونها.
وحيث إن السلطة التي يملكها المشرع في مجال تنظيم الملكية لضبطها وفقاً لوظيفتها الاجتماعية،
حدها قواعد الدستور؛ فلا يجوز أن ينال المشرع من عناصرها؛ ولا أن يغير من طبيعتها أو
يجردها من لوازمها؛ ولا أن يفصلها عن أجزائها أو يدمر أصلها؛ أو يقيد من مباشرة الحقوق
التي تتفرع عنها في غير ضرورة تقتضيها وظيفتها الاجتماعية. ودون ذلك تفقد الملكية الخاصة
ضماناتها الجوهرية التي كفلها الدستور بالمادتين 32 و34، ويكون العدوان عليها غصباً
وافتئاتاً على كيانها، أدخل إلى مصادرتها.
وحيث إن القيود التي فرضها النص المطعون فيه على أموال المخاطبين بأحكامه، ليس مدخلها
الاتفاق، بل مصدرها نص القانون. وهي بعد لا تقتصر على حرمانهم من إدارة أموالهم، بل
تتعداها إلى منعهم من التعامل فيها. وفي كل ذلك تنال هذه القيود من ملكيتهم، وتقوض
أهم خصائصها لتكون – في مضمونها وأثرها – صورة من صور الحراسة يفرضها المشرع عليها
– بعيداً عن صدور حكم قضائي بها – بالمخالفة لنص المادة 34 من الدستور التي تتغيا أن
تكون الملكية لأصحابها يباشرون عليها كل الحقوق المتفرع عنها، لتظل أيديهم متصلة بها،
لا تغل عنها، ولا ترد عن حفظها وإدارتها، بل يحيط ذووها بها، وبأشكال من التعامل يقدرون
ملاءمة الدخول فيها؛ وكان هذان الإجراءان – وهما التحفظ على المشغولات الذهبية إلى
أن تباشر جهة الاختصاص تصرفها فيها – مترتبين على افتراض المشرع تهريبها، وينتهيان
إلى غل يد مالكها عن إدارتها والتعامل فيها، فإنهما بذلك يمثلان عدواناً على الملكية
الخاصة التي كفل الدستور صونها.
وحيث إنه متى كان ذلك؛ وكان النص المطعون قد نقض افتراض البراءة؛ وأخل بحق الدفاع؛
وبالحدود التي تفصل بين السلطتين التشريعية والتنفيذية؛ وبالضمانة التي فرضها الدستور
لصون الملكية الخاصة، فإنه بذلك يكون مخالفاً لأحكام المواد 32 و34 و40 و67 و68 و86
و165 من الدستور.
فلهذه الأسباب
حكمت المحكمة بعدم دستورية نص المادة 15 من القانون رقم 68 لسنة 1976 بشأن الرقابة على المعادن الثمينة وذلك فيما تضمنه من النص على عدم دمغ المعادن الثمينة والمشغولات والأصناف والأحجار التي تسري عليها مادته الأولى، إذا لم يقد حائزها الدليل على دخولها إلى البلاد بطريق مشروع، وكذلك التحفظ عليها والتصرف فيها بمعرفة جهات الاختصاص، وألزمت الحكومة المصروفات ومبلغ مائة جنيه مقابل أتعاب المحاماة.