الرئيسية الاقسام القوائم البحث

قاعدة رقم الطعن رقم 38 لسنة 16 ق “دستورية”لم يتم التعرف على تاريخ الجلسة

أحكام المحكمة الدستورية العليا – الجزء الثامن
من أول يوليو 1996 حتى آخر يونيو 1998 – صـ 169

جلسة 16 نوفمبر 1996

برئاسة السيد المستشار الدكتور/ عوض محمد عوض المر -رئيس المحكمة، وعضوية السادة المستشارين: الدكتور محمد إبراهيم أبو العينين ومحمد ولي الدين جلال ونهاد عبد الحميد خلاف وفاروق عبد الرحيم غنيم وعبد الرحمن نصير وسامي فرج يوسف. وحضور السيد المستشار الدكتور/ حنفي علي جبالي – رئيس هيئة المفوضين، وحضور السيد/ حمدي أنور صابر – أمين السر.

قاعدة رقم
القضية رقم 38 لسنة 16 ق "دستورية"

1- سلطة قضائية "استقلالها وحيدتها: تلازمهما".
ضمانتا استقلال السلطة القضائية وحيدتها تتعلقان بإدارة العدالة بما مؤداه بالضرورة تلازمهما.
2- سلطة قضائية "استقلالها وحيدتها: تضامنهما".
تعادل ضمانتي استقلال السلطة القضائية وحيدتها في مجال اتصالهما بالفصل في الحقوق انتصافاً – تضامنهما تكاملاً.
3- سلطة قضائية "حيدتها".
حيدة السلطة القضائية عنصر فاعل في صون رسالتها لا يقل شأناً عن استقلالها بما يؤكد تكاملهما.
4- سلطة قضائية "ضمانة التجرد".
ميل رجال هذه السلطة عن الحق إغواءً أو إرغاماً ترغيباً أو ترهيباً – تغليباً لأهواء النفس – ينافي ضمانة التجرد عند الفصل في الخصومة القضائية، ويخل بحيادهم.
5- دستور – سلطة قضائية "استقلالها".
ما نص عليه الدستور من أنه لا سلطان على القضاة في قضائهم لغير القانون لا يحمي فقد استقلال القاضي بل يتطلب حيدته كذلك.
6- دستور – حق التقاضي – رد القاضي.
رد قاض بعينه عن نظر نزاع محدد، وثيق الصلة بحق التقاضي المنصوص عليه في المادة 68 من الدستور – التزام الدولة بأن توفر للخصومة في نهاية مطافها حلاً منصفاً يقوم على حيدة المحكمة واستقلالها.
7- تشريع "نصوص رد القضاة: موازنة".
موازنة المشرع – من خلال النصوص التي نظم بها رد القضاة – بين أمرين:- أولهما: ألا يفصل في الدعوى قضاة غير محايدين، وقد أجاز المشرع ردهم وفق أسباب حددها. ثانيهما: ألا يكون رد القضاة مدخلاً إلى التشهير بهم دون حق.
8- تشريع "نص الفقرة الرابعة من المادة 148 من قانون المرافعات المدنية والتجارية: ضوابط".
قيام هذا النص على ضوابط محددة لا تنفلت بها متطلبات تطبيقه – استهدافه أن يوفر لرد القضاة سبباً يقوم على معيار عام يتسع للعديد من الصور جامعها أن مشاعر شخصية تقوم بين قاض وأحد الخصوم يرجح معها ألا يكون قضاؤه بغير ميل مستطاعاً.
9- تشريع "أسلوبه"
لجوء المشرع أحياناً إلى قواعد جامدة تقرر لبعض المسائل حلاً واحداً لا يتغير ضماناً لاستقرار التعامل؛ وإلى معايير مرنه تتغاير تطبيقاتها من حالة إلى أخرى.
10- تشريع "نص الفقرة الرابعة من المادة 148 من قانون المرافعات: حيدة القاضي".
ليس لازماً لقيام المودة بين قاض وأحد الخصوم في الدعوى التي يتولى نظرها أن تدل القرائن على متانتها – ولا أن تكون العداوة قد بلغت عمقاً يؤكد شدتها – يكفي لتحقق آيتهما أن تكون شخصية متصلة بذات القاضي ومن أثرها أن يميل عن ميزان الحق.
11- تشريع "نص الفقرة الرابعة من المادة 148 من قانون المرافعات، رد القضاة"
إنشاء النص المشار إليه سبباً عاماً للرد – منصرف إلى كل الأحوال التي تثور فيها شبهه لها أساسها.
12- تشريع "نص الفقرة الرابعة من المادة 148 من قانون المرافعات".
استقامة معنى هذا النص وإن كان المشرع قد صاغه وفقاً لمعيار مرن – براءته من كل عوار يرتد إلى النصوص الدستورية ذاتها.
13- تنظيم الحقوق "سلطة تقديرية" – حق التقاضي.
الأصل في سلطة المشرع في موضوع تنظيم الحقوق – ومن بينها حق التقاضي – أنها سلطة تقديرية جوهرها المفاضلة التي يجريها المشرع بين البدائل المختلفة التي تتصل بالموضوع محل التنظيم.
14- تنظيم الحقوق "سلطة تقديرية: قيودها".
ليس ثمة قيد على مباشرة المشرع لسلطته هذه، إلا أن يكون الدستور قد فرض في شأن ممارستها ضوابط محددة يجب التزامها.
15- حق التقاضي "تنظيمه".
التنظيم التشريعي لحق التقاضي لا يناقض وجود هذا الحق وفق أحكام الدستور، وبما لا يصل إلى حد إهداره.
16- خصومة الرد "الخصومة الأصلية: استقلالهما – الربط بينهما". سياسة تشريعية.
لا شأن لخصومة الرد بنطاق الخصومة الأصلية المرددة بين أطرافها ولا بالحقوق المتداعي في شأنها – اعتصام خصومة الرد بذاتيتها – قانون المرافعات وإن كفل استقلال خصومة الرد عن الخصومة الأصلية إلا أنه ربط بينهما في مجال الطعن في الحكم الصادر برفض طلب الرد – عدم إجازة هذا النص الطعن إلا مع الطعن في الحكم الصادر في الخصومة الأصلية – ما قرره هذا النص أدخل إلى السياسة التشريعية التي اعتنقها المشرع في مجال رد القضاة ضماناً لحصر الخصومة في إطارها الحقيقي.
17- تشريع "نص الفقرة الرابعة من المادة 148 من قانون المرافعات: خصومة الرد".
موافقة هذا النص فيما قرره من قواعد لخصومة الرد – وفق أسس موضوعية – للدستور.
1- إن تنظيم المشرع لأحوال رد القضاة – وعلى ما جاء بالمذكرة الإيضاحية لمشروع القانون رقم 23 لسنة 1992 بتعديل بعض أحكام قانون المرافعات – قد توخي توكيد قاعدة أصولية قوامها أن كل متقاض يجب أن يطمئن لأن قضاء قاضيه لا يصدر إلا عن الحق وحده، دون تأثير من دخائل النفس البشرية في هواها وتحيزها؛ وكانت ضمانتا استقلال السلطة القضائية وحيدتها، تتعلقان بإدارة العدالة ضماناً لفعاليتها، وبما مؤداه بالضرورة تلازمهما، فلا ينفصلان.
2- من غير المتصور أن يكون الدستور نائياً بالسلطة القضائية عن أن تقوض بنيانها عوامل خارجية تؤثر في رسالتها، وأن يكون إيصالها الحقوق لذويها مهدداً بالتواء من حيدة وتجرد رجالها. وإذا جاز القول – وهو صحيح – بأن الفصل في الخصومة القضائية – حقاً وعدلاً – لا يستقيم إذا داخلتها عوامل تؤثر من موضوعية القرار الصادر عنها، أياً كانت طبيعتها، وبغض النظر عن مصدرها أو دوافعها أو أشكالها، فقد صار أمراً مقضياً أن تتعادل ضمانتا استقلال السلطة القضائية وحيدتها في مجال اتصالهما بالفصل في الحقوق انتصافاً، ترجيحاً لحقيقتها القانونية، لتكون لهما معاً القيمة الدستورية ذاتها، فلا تعلو إحداها على أخراها أو تجبها، بل يتضامنان تكاملاً، ويتكافآن قدراً.
3، 4- إن قضاء هذه المحكمة قد جرى على أن استقلال السلطة القضائية، وإن كان لازماً لضمان موضوعية الخضوع للقانون، ولحصول من يلوذون بها على الترضية القضائية التي يطلبونها عند وقوع عدوان على حقوقهم أو حرياتهم، إلا أن حيدتها عنصر فاعل في صون رسالتها لا يقل شأناً عن استقلالها، بما يؤكد تكاملهما.
ولئن كان بعض الفقهاء يولون عنايتهم لاستقلال السلطة القضائية، ولا يعرضون لحيدتها إلا بصورة جانبية، ويمزجون بينهما أحياناً، إلا أن التمييز بين مفهوم استقلال السلطة القضائية وحيدتها، يتعين أن يكون فاصلاً بين معنيين لا يتداخلان.
ذلك أن استقلال السلطة القضائية، يعني أن تعمل بعيداً عن أشكال التأثير الخارجي التي توهن عزائم رجالها، فيميلون معها عن الحق إغواءً أو إرغاماً، ترغيباً أو ترهيباً. فإذا كان انصرافهم عن إنفاذ الحق، تحاملاً من جانبهم على أحد الخصوم، وانحيازاً لغيره، لمصالح ذاتية أو لغيرها من العوامل الداخلية التي تثير غرائز ممالأة فريق دون آخر، كان ذلك منهم تغليباً لأهواء النفس، منافياً لضمانة التجرد عند الفصل في الخصومة القضائية، مما يخل بحيادهم.
5- كفل الدستور استقلال السلطة القضائية واستقلال القضاة، في المادتين 165 و166، توقياً لأي تأثير محتمل قد يميل بالقاضي انحرافاً عن ميزان الحق، إلا أن الدستور نص كذلك على أنه لا سلطان على القضاة في قضائهم لغير القانون. وهذا المبدأ الأخير لا يحمي فقط استقلال القاضي، بل يحول كذلك دون أن يكون العمل القضائي وليد نزعة شخصية غير متجردة، ومن ثم تكون حيدة القاضي شرطاً لازماً دستورياً لضمان ألا يخضع في عمله لغير سلطان القانون.
6- إن الحق في رد قاض بعينه عن نظر نزاع محدد، وثيق الصلة بحق التقاضي المنصوص عليه في المادة 68 من الدستور، ذلك أن مجرد النفاذ إلى القضاء لا يعتبر كافياً لصون الحقوق التي تستمد وجودها من النصوص القانونية، بل يتعين دوماً أن يقترن هذا النفاذ، بإزالة العوائق التي تحول دون تسوية الأوضاع الناشئة من العدوان عليها، وبوجه خاص ما يتخذ منها صورة الأشكال الإجرائية المعقدة، كي توفر الدولة للخصومة في نهاية مطافها حلاً منصفاً يقوم على حيدة المحكمة واستقلالها، ويعكس بمضمونه التسوية التي يتعمد الخصم إلى الحصول عليها بوصفها الترضية القضائية التي يطلبها.
7- إن المشرع تدخل بالنصوص التي تظم بها رد القضاة، ليوازن بين أمرين أولهما:
ألا يفصل في الدعوى – وأياً كان موضوعها – قضاة داخلتهم شبهة تقوم بها مظنة ممالأة أحد أطرافها، والتأثير بالتالي في حيدتهم، فلا يكون عملهم انصرافاً لتطبيق حكم القانون في شأنها، بل تحريفاً لمحتواه. ومن ثم أجاز المشرع ردهم وفق أسباب حددها، ليحول دونهم وموالاة نظر الدعوى التي قام سبب ردهم بمناسبتها. ثانيهما: ألا يكون رد القضاة مدخلاً إلى التشهير بهم دون حق، وإيذاء مشاعرهم إعناتاً، أو التهوين من قدرهم عدواناً، أو لمنعهم من نظر قضايا بذواتها توقياً للفصل فيها كيداً ولدداً. وكان ضرورياً بالتالي، أن يكفل المشرع – في إطار التوفيق بين هذين الاعتبارين، وبما يوازن بينهما – تنظيماً لحق الرد لا يجاوز الحدود التي ينبغي أن يباشر في نطاقها، ولا يكون موطئاً إلى تعطيل الفصل في النزاع الأصلي.
8 – 9 – نص الفقرة 4 من المادة 148 من قانون المرافعات المدنية والتجارية التي تقضي بجواز رد القاضي إذا كان بينه وبين أحد الخصوم عداوة أو مودة يرجح معها عدم استطاعته الحكم بغير ميل، يقوم على ضوابط محددة لا تنفلت بها متطلبات تطبيقه، ذلك أن المودة والعداوة وإن كانتا من العناصر النفسية الغائرة في الأعماق، إلا أن الدليل عليها لا يقوم إلا من مظاهر خارجية تشي بها أو تفصح عنها، ليكون إثباتها دائراً مع هذه المظاهر وجوداً وعدماً. وليس لازماً بالتالي أن يكون هذا الدليل مباشراً جازماً لا يقبل تأويلاً، بل يكفي أن ترشح قرائن الحال لوجودها، وأن يكون تضافرها مؤدياً إليها.
كذلك ما قصد إليه النص المطعون فيه، هو أن يوفر لرد القضاة سبباً يقوم على معيار عام يتسع لعديد من الصور التي يتعذر حصرها، وإن كان جامعها أن مشاعر شخصية تقوم بين قاض وأحد الخصوم يرجح معها ألا يكون قضاؤه بغير ميل مستطاعاً، سواء كان هذا الميل إيجابياً أم سلبياً، فلا يستقيم ميزان الحق مع وجوده واحتراز لهذا الاحتمال، ونأياً بالعمل القضائي عن أن يكون محاطاً بالشبهات التي لا يطمئن معها إلى تجرده، صيغ النص المطعون فيه. ومردود ثالثاً بأن العوامل النفسية يستحيل ضبطها جامدة، ولا تعريفها بفواصل قاطعة تجليها، بل يتعين أن يكون زمام تطبيقها – عند تحقق مظاهرها – مرناً، فلا يكون اقتضابها قاصراً عن أن يحيط بها، ولا اتساعها مفرطاً في مجاوزة نطاقها.
ولئن صح القول بأن المشرع قد يلجاً أحياناً إلى قواعد جامدة تقرر لبعض المسائل حلاً واحداً لا يتغير، كذلك التي تتعلق بالغبن في بيع عقار لقاصر، أو بجزاء العدول عن العربون أو بفوائد التأخير، إلا أن جمود هذه القواعد ينبغي أن يكون مقصوراً على أحوال يقتضيها استقرار التعامل، فلا يجوز مد تطبيقها إلى أوضاع يستعصى تطبيقها على التحديد القاطع لظروفها وملابساتها، بل يتعين أن يكون البديل عنها معايير مرنة، ولو كان تطبيقها كاشفاً عن عناصر نفسية، كذلك التي تضمنها التقنين المدني بالنسبة إلى الإكراه والاستغلال، وكذلك فيما يعتبر غلطاً جوهرياً أو تدليساً جسيماً أو باعثاً دافعاً إلى التعاقد، إذ يقوم تنظيمها جميعاً على معايير مرنة تتغاير تطبيقاتها من حالة إلى أخرى.
10، 11- ليس لازماً لقيام المودة بين قاض وأحد الخصوم في الدعوى التي يتولى نظرها، أن تدل القرائن على متانتها ووثاقتها، ولا أن تكون العداوة قد بلغت عمقاً يؤكد شدتها وجموحها، بل يكفي لتحقق أيتهما أن تكون شخصية تتصل بذات القاضي، وأن يكون من أثرها أن يميل عن ميزان الحق، ولو لم تصل العداوة إلى حد الخصومة، ولا المودة إلى حد مؤاكلة أحد ألخصوم أو السكنى معه أو قبول هدايا منه قبل رفع الدعوى أو بعدها، بل ولو كان باعثها ومحركها منفصلاً عن علاقة زوجية أو قرابة أو مصاهرة.
والنص المطعون فيه يعتبر بذلك، منشئاً سبباً عاماً للرد، منصرفاً إلى كل الأحوال التي تثور فيها شبهة لها أساسها حول نوع من المشاعر الشخصية تقوم بالقاضي، ولا يرجح معها الحكم في الدعوى التي يراد رده عنها بغير ميل يكون عاصفاً بالحق، أو مؤثراً في مجراه. ومن ثم لا يقيد هذا النص من صور الرد، بل يتعقبها في أغلب مظانها، ويكاد أن يحيط بها ويستغرقها.
12 – إن النصوص القانونية التي استقام معناها – ويندرج النص المطعون فيه تحتها – لا يكون تطبيقها مشوباً بالغموض، ولا ترتبط دستوريتها – وحالتها هذه – بما إذا كان المشرع قد صاغها وفقاً لمعيار مرن ضماناً لاتساعها لأوضاع تتغاير ظروفها وملابساتها، أم أفرغها في صورة جامدة توحيداً لفروض تطبيقها، بل يكون اتفاقها أو اختلافها في الدستور، مناطاً لصحتها أو بطلانها. ولا كذلك النص المطعون فيه الذي خلا من كل عوار يرتد إلى النصوص الدستورية ذاتها.
13، 14- الأصل في سلطة المشرع في موضوع تنظيم الحقوق – ومن بينها حق التقاضي – أنها سلطة تقديريه جوهرها المفاضلة التي يجريها بين البدائل المختلفة التي تتصل بالموضوع محل التنظيم، لاختيار أنسبها لفحواه، وأحراها بتحقيق الأغراض التي يتوخاها، وأكفلها للوفاء بأكثر المصالح وزناً. وليس ثمة قيد على مباشرة المشرع لسلطته هذه، إلا أن يكون الدستور قد فرض في شأن ممارستها ضوابط محددة تعتبر تخوماً لها ينبغي التزامه
15- إن قضاء هذه المحكمة قد جرى كذلك، على أن التنظيم التشريعي لحق التقاضي لا يناقض وجود هذا الحق وفق أحكام الدستور، وأن هذا التنظيم لا يتقيد بأشكال جامدة لا يريم المشرع عنها تفرغ قوالبها في صورة صماء لا تبديل فيها، بل يجوز أن يغاير فيما بينها، وأن يقدر لكل حال ما يناسبها، على ضوء مفاهيم متطورة تقتضيها الأوضاع التي يباشر هذا الحق عملاً في نطاقها، وبما لا يصل إلى حد إهداره، ليظل هذا التنظيم مرناً، فلا يكون إفراطاً يطلق الخصومة القضائية عقالها انحرافاً بها عن أهدافها، ولا تفريطاً مجافياً لمتطلباتها، بل بين هذين الأمرين قواماً، التزاماً بمقاصدها، باعتبارها شكلاً للحماية القضائية للحق في صورتها الأكثر اعتدالاً.
16- 17- إن خصومة الرد تثير ادعاء في شأن الخصومة الأصلية مداره أن قاضيها أو بعض قضاتها الذين يتولون الفصل فيها، قد زايلتهم الحيدة التي يقتضيها العمل القضائي، ومن ثم كان لخصومة الرد خطرها ودقتها سواء بالنظر إلى موضوعها أو الآثار التي تنجم عنها، ولا شأن لها بالتالي بنطاق الخصومة الأصلية المرددة بين أطرافها، ولا بالحقوق التي يطلبونها فيها، ولا بإثباتها أو نفيها، بل تستقل تماماً عن موضوعها، فلا يكون لها من صلة بما هو مطروح فيها، ولا بشق من جوانبها، ولا بالمسائل المتفرعة عنها أو العارضة عليها، بل تعتصم خصومة الرد بذاتيتها، لتكون لها مقوماتها الخاصة بها.
والأهمية التي بلغتها خصومة الرد، وانعكاسها على الخصومة الأصلية التي لا يجوز أن يكون الفصل فيها معلقاً أو متراخياً إلى غير حد، واتصالها المباشر بولاية الفصل فيها، هي التي تمثلها المشرع حين عَدَلَ عما كان قائماً من قبل من نظرها على درجتين، ليعهد بولاية الفصل فيها – وعلى ما تنص عليه المادة 153 من قانون المرافعات – إلى إحدى الدوائر بالمحكمة الاستئنافية، سواء أكان القاضي المطلوب رده من مستشاريها أم كان قاضياً جزئياً أو ابتدائياً، ليكون اختصاصها بالفصل في خصومة الرد مقصوراً عليها، محيطاً بجوانبها، وازناً بالقسط المطاعن المثارة فيها.
ويظل هذا الاختصاص ثابتاً لهذه الدائرة، ولو كان الطعن استئنافياً في الحكم الصادر في الخصومة الأصلية، ممتنعاً. بل إن قانون المرافعات، أجاز بالفقرة الأخيرة من المادة 157 المطعون عليها، الطعن في الحكم الصادر عن تلك الدائرة برفض طلب الرد، ولو كان الطعن بطريق النقض غير جائز في الخصومة الأصلية. وما ذلك إلا توكيد لاستقلال خصومة الرد عن الخصومة الأصلية، وإن جاز القول بتعلق أولاهما بثانيتهما، ورفعها بمناسبتها.
ولئن كان قانون المرافعات. كافلاً على هذا النحو، استقلال خصومة الرد عن الخصومة الأصلية، إلا أن هذا القانون ربط بينهما في مجال الطعن في الحكم الصادر برفض طلب الرد، إذ لم يجز هذا الطعن إلا مع الطعن في الحكم الصادر في الخصومة الأصلية، لتقوم بذلك بين هاتين الدعويين صلة محدودة أنشأتها الفقرة الأخيرة من المادة 157 المطعون عليها، وهي بعد صلة مردها أن الحكم الصادر في الخصومة الأصلية منهياً لها، قد يكون كافلاً للمدعي في خصومة الرد، الحقوق التي طلبها في الخصومة الأصلية، ونافياً بالتالي مصلحته الشخصية والمباشرة في تعييب الحكم الصادر برفض طلب الرد، وكان لازماً بالتالي ألا يطعن فيه استقلالاً، وأن يتربص الحكم المنهي للخصومة الأصلية، ليقدر على ضوء الحقوق التي أثبتها أو حجبها، ما إذا كان الطعن في الحكم الصادر برفض طلب الرد، لا زال منتجاً.
وإذ حال النص المطعون فيه بين طالب الرد والطعن في الحكم الصادر برفض طلبه، قبل أن تظهر الفائدة العملية التي يرتجيها من تجريحه، فإنه بذلك يكون أدخل إلى السياسة التشريعية التي اعتنقها المشرع في مجال رد القضاة، ضماناً لحصر خصومة الرد في إطارها المنطقي. ولا مجافاة في ذلك لنصوص الدستور، ذلك أن ما يقدره المشرع – وفق أسس موضوعية – كافلاً لحسن سير التقاضي، يكون حرياً بالإتباع.


الإجراءات

بتاريخ 27 من نوفمبر سنة 1994 أودعت المدعية صحيفة هذه الدعوى قلم كتاب المحكمة، طالبة الحكم بعدم دستورية الفقرة الرابعة من المادة 148 والفقرة الأخيرة من المادة 157 من قانون المرافعات المدنية والتجارية.
قدمت هيئة قضايا الدولة مذكرة طلبت فيها الحكم أصلياً بعدم قبول الدعوى، واحتياطياً برفضها.
وبعد تحضير الدعوى أودعت هيئة المفوضين تقريراً برأيها.
ونظرت الدعوى على الوجه المبين بمحضر الجلسة، وقررت المحكمة إصدار الحكم فيها بجلسة اليوم.


المحكمة

بعد الاطلاع على الأوراق، والمداولة.
حيث إن الوقائع – على ما يبين من صحيفة الدعوى وسائر الأوراق – تتحصل في أن المدعية كانت قد أقامت الدعوى رقم 90 لسنة 1992 شرعي جزئي المنتزه بالإسكندرية بطلب الحكم بالمصروفات الدراسية التي كانت قد أنفقتها على صغيرها من المدعى عليه، فأجابتها المحكمة إلى طلبها، إلا أن حكمها قضى بإلغائه عند الطعن عليه استئنافياً. كذلك كانت المدعية قد أقامت الدعوى رقم 114 لسنة 1992 شرعي جزئي المنتزه بالإسكندرية بطلب إلزام المدعى عليه – والد صغيرها – بمصروفات علاجه، فأجابتها المحكمة إلى طلبها، إلا أن حكمها ألغى بدوره بعد الطعن عليه استئنافياً، مما حملها على تقديم شكوى للتفتيش القضائي بوزارة العدل.
وإذ أقامت دعواها الثالثة رقم 91 لسنة 1992 أمام محكمة المنتزه الجزئية للأحوال الشخصية بطلب 480 جنيهاً قيمة إجراء مناظير طبية لصغيرها، وكان قد قضى لها بهذا المبلغ، إلا أن المدعى عليه طعن كذلك في هذا الحكم استئنافياً أمام ذات الهيئة الاستئنافية التي سبق أن ألغت الحكمين السابقين الصادرين لصالحها، ومن ثم قامت بردها بكامل أعضائها.
وأثناء نظر طلب الرد دفع محاميها بعدم دستورية الفقرة 4 من المادة 148 من قانون المرافعات وكذلك الفقرة الثانية من المادة 157 من هذا القانون. وإذ قدرت محكمة الموضوع جدية الدفع، وصرحت برفع الدعوى الدستورية، فقد أقامت الدعوى الماثلة.
وحيث إن تنظيم المشرع لأحوال رد القضاة – وعلى ما جاء بالمذكرة الإيضاحية لمشروع القانون رقم 23 لسنة 1992 بتعديل بعض أحكام قانون المرافعات – قد توخي توكيد قاعدة أصولية قوامها أن كل متقاض يجب أن يطمئن لأن قضاء قاضيه لا يصدر إلا عن الحق وحده، دون تأثير من دخائل النفس البشرية في هواها وتحيزها، وكانت ضمانتا استقلال السلطة القضائية وحيدتها، تتعلقان بإدارة العدالة ضماناً لفعاليتها، بما مؤداه بالضرورة تلازمهما، فلا ينفصلان.
ومن غير المتصور بالتالي أن يكون الدستور نائياً بالسلطة القضائية عن أن تقوض بنيانها عوامل خارجية تؤثر في رسالتها، وأن يكون إيصالها الحقوق لذويها مهدداً بالتواء من حيدة وتجرد رجالها. وإذا جاز القول – وهو صحيح – بأن الفصل في الخصومة القضائية – حقاً وعدلاً – لا يستقيم إذا داخلتها عوامل تؤثر في موضوعية القرار الصادر عنها، أياً كانت طبيعتها، وبغض النظر عن مصدرها أو دوافعها أو أشكالها، فقد صار أمراً مقضياً أن تتعادل ضمانتا استقلال السلطة القضائية وحيدتها في مجال اتصالهما بالفصل في الحقوق انتصافاً، ترجيحاً لحقيقتها القانونية، لتكون لهما معاً القيمة الدستورية ذاتها، فلا تعلو إحداها على أخراها أو تجبها، بل يتضامنان تكاملاً، ويتكافآن قدراً.
وحيث إن قضاء هذه المحكمة قد جرى على أن استقلال السلطة القضائية، وإن كان لازماً لضمان موضوعية الخضوع للقانون، ولحصول من يلوذون بها على الترضية القضائية التي يطلبونها عند وقوع عدوان على حقوقهم أو حرياتهم، إلا أن حيدتها عنصر فاعل في صون رسالتها لا يقل شأناً عن استقلالها، بما يؤكد تكاملهما.
ولئن كان بعض الفقهاء يولون عنايتهم لاستقلال السلطة القضائية، ولا يعرضون لحيدتها إلا بصورة جانبية، ويمزجون بينهما أحياناً، إلا أن التمييز بين مفهوم استقلال السلطة القضائية وحيدتها، يتعين أن يكون فاصلاً بين معنيين لا يتداخلان.
ذلك أن استقلال السلطة القضائية، يعني أن تعمل بعيداً عن أشكال التأثير الخارجي التي توهن عزائم رجالها، فيميلون معها عن الحق إغواءً أو إرغاماً، ترغيباً أو ترهيباً. فإذا كان انصرافهم عن إنفاذ الحق، تحاملاً من جانبهم على أحد الخصوم، وانحيازاً لغيره، لمصالح ذاتية أو لغيرها من العوامل الداخلية التي تثير غرائز ممالأة فريق دون آخر، كان ذلك منهم تغليباً لأهواء النفس، منافياً لضمانة التجرد عند الفصل في الخصومة القضائية، مما يخل بحيادهم.
وقد كفل الدستور استقلال السلطة القضائية واستقلال القضاة، في المادتين 165 و166، توقياً لأي تأثير محتمل قد يميل بالقاضي انحرافاً عن ميزان الحق، إلا أن الدستور نص كذلك على أنه لا سلطان على القضاة في قضائهم لغير القانون. وهذا المبدأ الأخير لا يحمي فقط استقلال القاضي، بل يحول كذلك دون أن يكون العمل القضائي وليد نزعة شخصية غير متجردة، ومن ثم تكون حيدة القاضي شرطاً لازماً دستورياً لضمان ألا يخضع في عمله لغير سلطان القانون.
وحيث إن الحق في رد قاض بعينه عن نظر نزاع محدد، وثيق الصلة بحق التقاضي المنصوص عليه في المادة 68 من الدستور، ذلك أن مجرد النفاذ إلى القضاء لا يعتبر كافياً لصون الحقوق التي تستمد وجودها من النصوص القانونية، بل يتعين دوماً أن يقترن هذا النفاذ، بإزالة العوائق التي تحول دون تسوية الأوضاع الناشئة من العدوان عليها، وبوجه خاص ما يتخذ منها صورة الأشكال الإجرائية المعقدة، كي توفر الدولة للخصومة في نهاية مطافها حلاً منصفاً يقوم على حيدة المحكمة واستقلالها، ويعكس بمضمونه التسوية التي يتعمد الخصم إلى الحصول عليها بوصفها الترضية القضائية التي يطلبها.
وحيث إن المشرع تدخل بالنصوص التي تظم بها رد القضاة، ليوازن بين أمرين أولهما: ألا يفصل في الدعوى – وأياً كان موضوعها – قضاة داخلتهم شبهة تقوم بها مظنة ممالأة أحد أطرافها، والتأثير بالتالي في حيدتهم، فلا يكون عملهم انصرافاً لتطبيق حكم القانون في شأنها، بل تحريفاً لمحتواه. ومن ثم أجاز المشرع ردهم بمناسبتها. ثانيهما: ألا يكون رد القضاة مدخلاً إلى التشهير بهم دون حق، وإيذاء مشاعرهم إعناتاً، أو التهوين من قدرهم عدواناً، أو لمنعهم من نظر قضايا بذواتها توقياً للفصل فيها كيداً ولدداً. وكان ضرورياً بالتالي، أن يكفل المشرع – في إطار التوفيق بين هذين الاعتبارين، وبما يوازن بينهما – تنظيماً لحق الرد لا يجاوز الحدود التي ينبغي أن يباشر في نطاقها، ولا يكون موطئاً إلى تعطيل الفصل في النزاع الأصلي.
وحيث إن المدعية تنعي على الفقرة 4 من المادة 148 من قانون المرافعات المدنية والتجارية التي تقضي بجواز رد القاضي إذا كان بينه وبين أحد الخصوم عداوة أو مودة يرجح معها عدم استطاعته الحكم بغير ميل، غموضها وخفاء معناها وتعلقها بمشاعر تكمن في الصدور، ويتعذر إثباتها.
وحيث إن هذا النعي مردود أولاً: بأن العوامل النفسية يستحيل ضبطها بنصوص جامدة، ولا تعريفها بفواصل قاطعة تجليها، بل يتعين أن يكون زمام تطبيقها – عند تحقق مظاهرها – مرناً، فلا يكون اقتضابها قاصراً عن أن يحيط بها، ولا اتساعها مفرطاً في مجاوزة نطاقها.
ولئن صح القول بأن المشرع قد يلجاً أحياناً إلى قواعد جامدة تقرر لبعض المسائل حلاً واحداً لا يتغير، كذلك التي تتعلق بالغبن في بيع عقار لقاصر، أو بجزاء العدول عن العربون أو بفوائد التأخير، إلا أن جمود هذه القواعد ينبغي أن يكون مقصوراً على أحوال يقتضيها استقرار التعامل، فلا يجوز مد تطبيقها إلى أوضاع يستعصى تطبيقها على التحديد القاطع لظروفها وملابساتها، بل يتعين أن يكون البديل عنها معايير مرنة، ولو كان تطبيقها كاشفاً عن عناصر نفسية، كذلك التي تضمنها التقنين المدني بالنسبة إلى الإكراه والاستغلال، وكذلك فيما يعتبر غلطاً جوهرياً أو تدليساً جسيماً أو باعثاً دافعاً إلى التعاقد، إذ يقوم تنظيمها جميعاً على معايير مرنة تتغاير تطبيقاتها من حالة إلى أخرى.
ومردود ثانياً: بأن ما قصد إليه النص المطعون فيه، هو أن يوفر لرد القضاة سبباً يقوم على معيار عام يتسع لعديد من الصور التي يتعذر حصرها، وإن كان جامعها أن مشاعر شخصية تقوم بين قاض وأحد الخصوم يرجح معها ألا يكون قضاؤه بغير ميل مستطاعاً، سواء كان هذا الميل إيجابياً أم سلبياً، فلا يستقيم ميزان الحق مع وجوده. واحتراز لهذا الاحتمال، ونأيا بالعمل القضائي عن أن يكون محاطاً بالشبهات التي لا يطمئن معها إلى تجرده صيغ النص المطعون فيه.
ومردود ثالثاً: بأن النص المطعون فيه يقوم على ضوابط محددة لا تنفلت بها متطلبات تطبيقه، ذلك أن المودة والعداوة وإن كانتا من العناصر النفسية الغائرة في الأعماق، إلا أن الدليل عليها لا يقوم إلا من مظاهر خارجية تشي بها أو تفصح عنها، ليكون إثباتها دائراً مع هذه المظاهر وجوداً وعدماً. وليس لازماً بالتالي أن يكون هذا الدليل مباشراً جازماً، بل يكفي أن ترشح قرائن الحال لوجودها، وأن يكون تضافرها مؤدياً إليها.
ومردود رابعاً: بأن العداوة والمودة اللتين تضمنهما النص المطعون فيه، لا تفتقران إلى التحديد، بل هما معنيان تردداً في النصوص القرآنية ذاتها التي ضبطها الله تعالى بالغاً بها حد الإعجاز.
ومردود خامساً: بأن للنص المطعون فيه – فوق هذا – نظائر في القوانين المعمول بها في الدولة العربية ليمثل اتجاهاً عاماً سائداً فيها، بل هو في مجال التطبيق في مصر أكثر يسراً من بعضها، إذ ليس لازماً لقيام المودة بين قاض وأحد الخصوم في الدعوى التي يتولى نظرها، أن تدل القرائن على متانتها ووثاقتها، ولا أن تكون العداوة قد بلغت عمقاً يؤكد شدتها وجموحها، بل يكفي لتحقق أيتهما أن تكون شخصية تتصل بذات القاضي، وأن يكون من أثرها أن يميل عن ميزان الحق، ولو لم تصل العداوة إلى حد الخصومة، ولا المودة إلى حد مؤاكلة أحد الخصوم أو السكنى معه أو قبول هدايا منه قبل رفع الدعوى أو بعدها، بل ولو كان باعثها ومحركها منفصلاً عن علاقة زوجية أو قرابة أو مصاهرة.
والنص المطعون فيه يعتبر بذلك، منشئاً سبباً عاماً للرد، منصرفاً إلى كل الأحوال التي تثور فيها شبهة لها أساسها حول نوع من المشاعر الشخصية تقوم بالقاضي، ولا يرجح معها الحكم في الدعوى التي يراد رده عنها بغير ميل يكون عاصفاً بالحق، أو مؤثراً في مجراه. ومن ثم لا يقيد هذا النص من صور الرد، بل يتعقبها في أغلب مظانها، ويكاد أن يحيط بها ويستغرقها.
ومردود سادساً: بأن النصوص القانونية التي استقام معناها – ويندرج النص المطعون فيه تحتها – لا يكون تطبيقها مشوباً بالغموض، ولا ترتبط دستوريتها – وحالتها هذه – بما إذا كان المشرع قد صاغها وفقاً لمعيار مرن ضماناً لاتساعها لأوضاع تتغاير ظروفها وملابساتها، أم أفرغها في صورة جامدة توحيداً لفروض تطبيقها، بل يكون اتفاقها أو اختلافها مع الدستور، مناطاً لصحتها أو بطلانها. ولا كذلك النص المطعون فيه الذي خلا من كل عوار يرتد إلى النصوص الدستورية ذاتها.
وحيث إن الفقرة الأولى من المادة 157 من قانون المرافعات بعد أن بينت الإجراءات التي يتعين اتخاذها في شأن طلب الرد، نصت في فقرتها الأخيرة على أنه لا يجوز – في جميع الأحوال – الطعن في الحكم الصادر برفض طلب الرد إلا مع الحكم الصادر في الدعوى الأصلية.
وحيث إن المدعية تنعي على هذه الفقرة، انطواءها على مصادرة لحق التقاضي، تأسيساً على أن خصومة الرد قد تثار أثناء نظر دعوى تدخل في اختصاص محكمة جزئية، ومن ثم ينعدم حق الطعن في الحكم الصادر فيها أمام محكمة النقض التي لا يجوز الطعن أمامها في المواد الجزئية. فضلاً عن أن موضوع طلب الرد يعتبر منفصلاً عن الدعوى الأصلية، ولا يجوز بالتالي أن يرتبط بها.
وحيث إن قانون المرافعات حرص على تنظيم الحق في رد القضاة من زوايا متعددة غايتها ألا يكون اللجوء إليه إسرافاً أو نزقاً، بل اعتدالاً وتبصراً، ومن ذلك أن يقدم طلب الرد قبل تقديم أي دفع أو دفاع وإلا سقط الحق فيه، فإذا أقفل باب المرافعة في الدعوى، غدا طلب الرد ممتنعاً. ولا يجوز كذلك أن يقدم هذا الطلب ممن سبق له طلب رد نفس القاضي في الدعوى ذاتها، ولا أن يكون متعلقاً بقضاة المحكمة أو مستشاريها جميعاً أو ببعضهم، بحيث لا يبقى من عددهم ما يكفي للحكم في الدعوى الأصلية أو طلب الرد. بل إن المشرع – في إطار هذا الاتجاه – لم يجز الطعن في الحكم الصادر برفض طلب الرد إلا مع الطعن في الحكم الصادر في الدعوى الأصلية.
وحيث إن بيان المقصود بنص الفقرة الأخيرة من المادة 157 من قانون المرافعات، يقتضي الرجوع إلى الأحكام التي انتظمها هذا القانون في شأن رد القضاة، منظوراً إليها في مجموعها.
وحيث إن الأصل في سلطة المشرع في موضوع تنظيم الحقوق – ومن بينها حق التقاضي – أنها سلطة تقديريه جوهرها المفاضلة التي يجريها بين البدائل المختلفة التي تتصل بالموضوع محل التنظيم، لاختيار أنسبها لفحواه، وأحراها بتحقيق الإغراض التي يتوخاها، وأكفلها للوفاء بأكثر المصالح وزناً. وليس ثمة قيد على مباشرة المشرع لسلطته هذه، إلا أن يكون الدستور قد فرض في شأن ممارستها ضوابط محددة تعتبر تخوماً لها ينبغي التزامها.
وحيث إن قضاء هذه المحكمة قد جرى كذلك، على أن التنظيم التشريعي لحق التقاضي لا يناقض وجود هذا الحق وفق أحكام الدستور، وأن هذا التنظيم لا يتقيد بأشكال جامدة لا يريم المشرع عنها تفرغ قوالبها في صورة صماء لا تبديل فيها، بل يجوز أن يغاير فيما بينها، وأن يقدر لكل حال ما يناسبها، على ضوء مفاهيم متطورة تقتضيها الأوضاع التي يباشر هذا الحق عملاً في نطاقها، وبما لا يصل إلى حد إهداره، ليظل هذا التنظيم مرناً، فلا يكون إفراطاً يطلق الخصومة القضائية من عقالها انحرافاً بها عن أهدافها، ولا تفريطاً مجافياً لمتطلباتها، بل بين هذين الأمرين قواماً، التزاماً بمقاصدها، باعتبارها شكلاً للحماية القضائية للحق في صورتها الأكثر اعتدالاً.
وحيث إن البين من تقرير لجنة الشئون الدستورية والقانونية في شأن مشروع القانون المعروض عليها بتعديل بعض أحكام قانون المرافعات – وعلى ضوء مناقشاتها التي تضمنتها مضبطة الجلسة التاسعة والأربعين للفصل التشريعي السادس لمجلس الشعب – أن النص على عدم جواز الطعن في الحكم الصادر برفض طلب الرد إلا مع الطعن في الحكم الصادر في الدعوى الأصلية، لم يكن وارداً أصلاً في مشروع الحكومة، ولكن اللجنة هي التي انتهت إلى تعديل المادة 157 من هذا القانون بإدخال هذه الفقرة عليها كنص جديد؛ وكان سندها في ذلك أن خصومة الرد تتفرع عن الخصومة الأصلية التي لا يعتبر الفصل في طلب الرد منهياً لها، ويتعين بالتالي – وفي إطار الاتساق التشريعي – حملها على القاعدة العامة التي تضمنها قانون المرافعات، والتي تقضي بعدم جواز الطعن في الأحكام غير المنهية للخصومة، إلا مع الحكم الصادر في موضوع الخصومة الأصلية المنهي لها.
وحيث إن خصومة الرد تثير ادعاء في شأن الخصومة الأصلية مداره أن قاضيها أو بعض قضاتها الذين يتولون الفصل فيها، قد زايلتهم الحيدة التي يقتضيها العمل القضائي، ومن ثم كان لخصومة الرد خطرها ودقتها سواء بالنظر إلى موضوعها أو الآثار التي تنجم عنها، ولا شأن لها بالتالي بنطاق الخصومة الأصلية المرددة بين أطرافها، ولا بالحقوق التي يطلبونها فيها، ولا بإثباتها أو نفيها، بل تستقل تماماً عن موضوعها، فلا يكون لها من صلة بما هو مطروح فيها، ولا بشق من جوانبها، ولا بالمسائل المتفرعة عنها أو العارضة عليها، بل تعتصم خصومة الرد بذاتيتها، لتكون لها مقوماتها الخاصة بها.
وحيث إن الأهمية التي بلغتها خصومة الرد، وانعكاسها على الخصومة الأصلية التي لا يجوز أن يكون الفصل فيها معلقاً أو متراخياً إلى غير حد، واتصالها المباشر بولاية الفصل فيها، هي التي تمثلها المشرع حين عَدَلَ عما كان قائماً من قبل من نظرها على درجتين، ليعهد بولاية الفصل فيها – وعلى ما تنص عليه المادة 153 من قانون المرافعات – إلى إحدى الدوائر بالمحكمة الاستئنافية، سواء أكان القاضي المطلوب رده من مستشاريها أم كان قاضياً جزئياً أو ابتدائياً، ليكون اختصاصها بالفصل في خصومة الرد مقصوراً عليها، محيطاً بجوانبها، وازناً بالقسط المطاعن المثارة فيها.
ويظل هذا الاختصاص ثابتاً لهذه الدوائر، ولو كان الطعن استئنافياً في الحكم الصادر في الخصومة الأصلية، ممتنعاً. بل إن قانون المرافعات، أجاز بالفقرة الأخيرة من المادة 157 المطعون عليها، الطعن في الحكم الصادر عن تلك الدائرة برفض طلب الرد، ولو كان الطعن بطريق النقض غير جائز في الخصومة الأصلية. وما ذلك إلا توكيد لاستقلال خصومة الرد عن الخصومة الأصلية، وإن جاز القول بتعلق أولاهما بثانيتهما، ورفعها بمناسبتها.
وحيث إن قانون المرافعات، وإن كفل على هذا النحو، استقلال خصومة الرد عن الخصومة الأصلية، إلا أن هذا القانون ربط بينهما في مجال الطعن في الحكم الصادر برفض طلب الرد، إذ لم يجز هذا الطعن إلا مع الطعن في الحكم الصادر في الخصومة الأصلية، لتقوم بذلك بين هاتين الدعويين صلة محدودة أنشأتها الفقرة الأخيرة من المادة 157 المطعون عليها، وهي بعد صلة مردها أن الحكم الصادر في الخصومة الأصلية منهياً لها، قد يكون كافلاً للمدعي في خصومة الرد، الحقوق التي طلبها في الخصومة الأصلية، ونافياً بالتالي مصلحته الشخصية والمباشرة في تعييب الحكم الصادر برفض طلب الرد، وكان لازماً بالتالي ألا يَطْعَنَ فيه استقلالاً، وأن يتربص الحكم المنهي للخصومة الأصلية، ليقدر على ضوء الحقوق التي أثبتها أو حجبها، ما إذا كان الطعن في الحكم الصادر برفض طلب الرد، لا زال منتجاً.
وحيث أن إذ كان ما تقدم، وكان النص المطعون قد حال بين طلب الرد والطعن في الحكم الصادر برفض طلبه، قبل أن تظهر الفائدة العملية التي يرتجيها من تجريحه، فإنه بذلك يكون أدخل إلى السياسة التشريعية التي اعتنقها المشرع في مجال رد القضاة، ضماناً لحصر خصومة الرد في إطارها المنطقي. ولا مجافاة في ذلك لنصوص الدستور، ذلك أن ما يقدره المشرع – وفق أسس موضوعية – كافلاً لحسن سير التقاضي، يكون حرياً بالإتباع.
وحيث إن النصين المطعون عليهما، لا يناقضان أن حكم في الدستور من أوجه أخرى.

فلهذه الأسباب

حكمت المحكمة برفض الدعوى وبمصادرة الكفالة وألزمت المدعية المصروفات ومبلغ مائة جنيه مقابل أتعاب المحاماة.

يمكنك مشاركة المقالة من خلال تلك الايقونات