الطعن رقم 5 لسنة 15 قضائية “تنازع” – جلسة 17 /12 /1994
المحكمة الدستورية العليا – الجزء السادس
من أول يوليو 1993 حتى آخر يونيو 1995 – صـ 918
جلسة 17 ديسمبر سنة 1994
برئاسة السيد المستشار الدكتور عوض محمد عوض المر – رئيس المحكمة، وحضور السادة المستشارين: الدكتور محمد إبراهيم أبو العينين وفاروق عبد الرحمن غنيم وعبد الرحمن نصير وسامي فرج يوسف ومحمد على سيف الدين ومحمد عبد القادر عبد الله – أعضاء، وحضور السيد المستشار الدكتور حنفي على جبالي – رئيس هيئة المفوضين، وحضور السيد رأفت محمد عبد الواحد – أمين السر.
(القاعدة رقم 19)
القضية رقم 5 لسنة 15 قضائية "تنازع"
1 – دعوى تنازع الاختصاص السلبي "معنى التخلي عن الاختصاص القضائي".
يقصد بالتخلي – في تطبيق أحكام البند ثانياً من المادة 25 من قانون المحكمة الدستورية
العليا – أن تعزل جهة القضاء أو الهيئات ذات الاختصاص القضائي نفسها عن نظر النزاع
المعروض عليها, سواء تم ذلك من خلال قضائها الصريح بعدم اختصاصها بنظره, أم كان هذا
المعنى مندرجاً ضمناً في حكمها.
2 – دعوى تنازع الاختصاص السلبي "الفصل فيها: غايتها".
ولاية هذه المحكمة بالفصل في التنازع السلبي على الاختصاص، غايتها أن يكون لكل خصومة
قضائية قاض يعود إليه أمر نظرها, وإنهاء النزاع في موضوعها، وذلك توكيداً لحق كل فرد
في النفاذ إلى القضاء نفاذاً ميسراً، وفق ما تقضي به المادة 68 من الدستور.
3 – حق التقاضي "الغاية التي يتوخاها: الترضية القضائية".
لا يبلغ حق التقاضي الغاية المقصودة منه, ما لم توفر جهة القضاء للمنازعة المعروضة
عليها – وفي نهاية مطافها – الترضية القضائية التي يسعى من يطلبها لمواجهة الإخلال
بالحقوق التي يدعيها، اندماج هذه الترضية في الحق في التقاضي, وإلا فقد هذه الحق مغزاه.
4 – حق التقاضي "إنكاره: مؤداه".
إنكار الحق في الترضية القضائية, سواء بمنعها ابتداءً, أو بإقامة العراقيل في سبيل
اقتضائها، أو بتقديمها متباطئةً متراخية دون مسوغ, أو إحاطتها بقواعد إجرائية معيبة
بصفة جوهرية, لا يعدو أن يكون إهداراً للحماية المكفولة للحقوق التي يدعي الإخلال بها.
5 – الولاية العامة لمجلس الدولة "مجالها – المنازعات الإدارية والدعاوى التأديبية".
أصبح مجلس الدولة هو قاضي القانون العام في شأن هذه المنازعات جميعها. ولم يعد اختصاصه
بصددها منحصراً في أحوال محددة بذواتها، بل يمتد إليها جميعاً، ما لم يعهد المشرع ببعضها
استثناء – وفي حدود ضيقة يقتضيها الصالح العام – إلى جهات قضائية أخرى.
6 – محكمة النقض "اختصاص دائرة رجال القضاء بها بالفصل في شئونهم: أساس ذلك".
هي الأكثر خبرة بأوضاع جهة القضاء العادي وشئون أعضائها, وأولى بالفصل في منازعاتهم.
7 – محكمة النقض "نطاق اختصاص دائرة رجال القضاء بها بالفصل في شئونهم".
يكفي لانعقاد الاختصاص لهذه الدوائر بالفصل في الطلبات التي يقدمها رجال القضاء والنيابة
العامة لإلغاء القرارات الإدارية النهائية الصادرة في أي شأن من شئونهم، أن يؤول طلب
الإلغاء إلى التأثير في المركز القانوني لأحدهم, ولو كان مقدماً من غيرهم.
8 – دعوى تنازع الاختصاص السلبي "الحكم فيها: مقتضاه".
مقتضى الحكم الصادر عن المحكمة الدستورية العليا بتعيين الجهة القضائية المختصة, إسباغ
الولاية من جديد، بحيث تلتزم بنظر الدعوى, غير مقيدة بسبق تخليها عن نظرها: ولو كان
حكمها في هذا الشأن قد أصبح نهائياً.
1 – من المقرر في قضاء المحكمة الدستورية العليا, أن مناط قبول طلب الفصل في تنازع
الاختصاص – طبقاً للبند "ثانياً" من المادة 25 من قانونها – هو أن تطرح الدعوى عن موضوع
واحد أمام جهتين من جهات القضاء أو الهيئات ذات الاختصاص القضائي, ولا تتخلى إحداهما
عن نظرها, أو تتخلى كلتاهما عنها. ويقصد "بالتخلي" – في تطبيق أحكام هذا البند – أن
تعزل جهة القضاء، أو الهيئة ذات الاختصاص القضائي نفسها عن نظر النزاع المعروض عليها،
سواء تم ذلك من خلال ما صَرَّح به قضاؤها من عدم اختصاصها بنظره, أم كان هذا المعنى
مندرجاً ضمناً في حكمها, ولازماً دلالة من استقراء أسبابه المرتبطة بمنطوقه ارتباطاً
لا يقبل التجزئة.
2 – الولاية التي أثبتها المشرع للمحكمة الدستورية العليا دون غيرها, والتي اختصها
بموجبها بالفصل في التنازع السلبي على الاختصاص, غايتها أن يكون لكل خصومة قضائية قاض
يعود إليه أمر نظرها, بقصد إنهاء النزاع موضوعها, ضماناً لفعالية إدارة العدالة بما
يكفل إرساء ضوابطها واستيفاء متطلباتها, وتوكيداً لحق كل فرد في النفاذ إلى القضاء
نفاذاً ميسراً، لا تثقله أعباء مالية, ولا تقيده عوائق إجرائية – على ما تقضى به المادة
68 من الدستور – وسعياً لإيصال الحقوق إلى أصحابها من خلال محكمة محايدة ينشئها القانون,
وتتوافر لاستقلالها وقواعد عملها, الأسس الموضوعية التي يتمكن كل مواطن في كنفها من
عرض دعواه, وإبداء دفاعه, ومواجهة الحجج التي يُدلي بها خصمه – رداً وتعقيباً – في
إطار من الفرص المتكافئة.
3 – لا يكفل حق التقاضي, الأغراض التي يتوخاها, ما لم توفر جهة القضاء للخصومة في نهاية
مطافها, حلاً منصفاً، يمثل الترضية القضائية التي يسعى من يطلبها, للحصول عليها, لمواجهة
الإخلال بالحقوق التي يدعيها. وتندمج هذه الترضية – وبافتراض مشروعيتها واتساقها مع
أحكام الدستور – في الحق في التقاضي لارتباطها بالغاية النهائية التي يتوخاها, ذلك
أن الخصومة القضائية لا تقام للدفاع عن مصلحة نظرية لا تتمحض عنها فائدة عملية؛ بل
غايتها اقتضاء منفعة يقرها القانون, وتتحدد على ضوئها حقيقة المسألة المتنازع عليها,
وحكم القانون بشأنها. واندماج هذه الترضية في الحق في التقاضي, مؤداه أنها من مكوناته,
ولا سبيل لفصلها عنه, وإلا فقد هذا الحق مغزاه وآل سراباً.
4 – إن قضاء المحكمة الدستورية العليا مطرد كذلك, على أن إنكار الحق في الترضية القضائية
سواء بمنعها ابتداء, أو بإقامة العراقيل في سبيل اقتضائها, أو بتقديمها متباطئة متراخية
دون مسوغ, أو بإحاطتها بقواعد إجرائية تكون معيبة في ذاتها بصفة جوهرية, لا يعد أن
يكون إهداراً للحماية التي يفرضها الدستور والقانون للحقوق التي يُدَّعى الإخلال بها,
وهدماً للعدالة في جوهر خصائصها وأدق توجهاتها؛ وبوجه خاص كلما كان طريق الطعن القضائي
لرد الأمور إلى نصابها ممتنعاً أو غير منتج.
5 – إذ عهد الدستور – في المادة 172 – إلى مجلس الدولة كهيئة قضائية لها استقلالها،
بالفصل في المنازعات الإدارية، والدعاوى التأديبية، فقد دل بذلك على أن ولايته في شأنها
هي ولاية عامة, وأنه أضحى قاضي القانون العام بالنسبة إليها, وأن المسائل التي اختص
بها لم تعد محددة حصراً في أحوال بذاتها, وأن عموم ولايته هذه, وانبساطها على المنازعات
الإدارية على تباين صورها, لا يعني غل يد المشرع عن إسناد الفصل في بعضها إلى جهات
قضائية أخرى, على أن يكون ذلك استثناء، وبالقدر وفي الحدود التي يقتضيها الصالح العام,
وفي إطار التفويض المخول للمشرع بنص المادة 167 من الدستور, في شأن تحديد الهيئات القضائية
وتقرير اختصاصاتها, وتنظيم طريقة تشكيلها.
6 – اختصاص دوائر المواد المدنية والتجارية بمحكمة النقض دون غيرها – وفقاً لنص المادة
83 من قانون السلطة القضائية – بالفصل في الطلبات التي يقدمها رجال القضاء والنيابة
العامة بإلغاء القرارات الإدارية النهائية المتعلقة بأي شأن من شئونهم، متى كان مبنى
الطلب عيباً في الشكل, أو مخالفة للقوانين, أو اللوائح، أو الخطأ في تطبيقها, أو تأويلها,
أو إساءة استعمال السلطة, لا يعدو أن يكون استثناء من أصل خضوع المنازعات الإدارية
جميعها للولاية التي عقدها الدستور لمحاكم مجلس الدولة, وهو استثناء تقرر لمصلحة جوهرية،
لها اعتبارها، بحسبان أن الدوائر المدنية والتجارية بمحكمة النقض, أكثر خبرة ودراية
بأوضاع جهة القضاء العادي وشئون أعضائها، وأولى بالفصل في منازعاتهم.
7 – انعقاد الاختصاص لهذه الدوائر على النحو المتقدم, لا يقتضي بالضرورة أن يكون طلب
إلغاء القرار المطعون فيه مقدماً من أحد رجال القضاء والنيابة العامة، بل يكفي لقيام
هذا الاختصاص أن يؤول طلب الإلغاء إلى التأثير في المركز القانوني لأحدهم, ولو كان
مقدماً من غيرهم, إذ يعتبر الطلب في هاتين الحالتين – كلتيهما – متصلاً بشأن من شئونهم،
وهو ما أكدته المحاكمتان الدستورية العليا والإدارية العليا في مقام تحديدهما لمفهوم
النصوص التي تقابل – في قانونيهما – حكم المادة 83 من قانون السلطة القضائية.
8 – أطرد قضاء المحكمة الدستورية العليا, على أن المشرع إذ ناط بالمحكمة الدستورية
العليا – دون غيرها – الفصل في تنازع الاختصاص الولائي بتعيين الجهة القضائية المختصة
وفقاً للبند ثانياً من المادة 25 من قانونها, فإن مقتضى الحكم الصادر عنها بتعيين هذه
الجهة, إسباغ الولاية عليها من جديد, بحيث تلتزم بنظر الدعوى غير مقيدة بسبق تخليها
عن نظرها؛ ولو كان حكمها في هذا الشأن قد أصبح نهائياً.
الإجراءات
بتاريخ العاشر من أغسطس سنة 1993 أودع المدعون قلم كتاب المحكمة
صحيفة هذه الدعوى بطلب الحكم بتعيين المحكمة المختصة بنظر دعواهم الموضوعية.
قدمت هيئة قضايا الدولة مذكرتين طلبت فيهما الحكم (أصلياً) بعدم قبول الدعوى و(احتياطياً)
بتعيين الدائرة المدنية بمحكمة النقض جهة مختصة بنظرها.
وبعد تحضير الدعوى أودعت هيئة المفوضين تقريراً برأيها.
ونظرت الدعوى على الوجه المبين بمحضر الجلسة, وقررت المحكمة إصدار الحكم فيها بجلسة
اليوم.
المحكمة
بعد الاطلاع على الأوراق, والمداولة.
حيث إن الوقائع – على ما يبين من صحيفة الدعوى وسائر الأوراق – تتحصل في أن المدعين
– وآخرين – كانوا قد أقاموا الدعوى رقم 30 لسنة 39 قضائية أمام المحكمة الإدارية لرئاسة
الجمهورية بطلب الحكم بوقف تنفيذ, ثم بإلغاء قرار رئيس الجمهورية رقم 412 لسنة 1991،
فيما تضمنه من استبعاد أسمائهم من قائمة المعينين في وظيفة "معاون نيابة" التي رشحوا
إليها بقرار مجلس القضاء الأعلى بتاريخ 19/ 6/ 1990، وبأحقيتهم في التعيين فيها, مع
ما يترتب على ذلك من آثار, قولاً منهم: إنهم كانوا قد تقدموا بطلبات للتعيين في وظائف
معاوني نيابة، وأنهم استوفوا جميع الشروط التي يتطلبها القانون للتعين فيها, واجتازوا
الاختبارات اللازمة، وأجريت عنهم التحريات المتطلبة, وأن مجلس القضاء الأعلى كان قد
وافق على ترشيحهم لشغلها, إلا أن هذه المجلس عاد وسحب موافقته, ورشح آخرين من دونهم,
دون أن يتقيد في ذلك بشروط المسابقة المعلن عنها. وإذ صدر القرار المطعون فيه متخطياً
إياهم في التعيين في هذه الوظائف, رغم أحقيتهم في ذلك، فقد أقاموا تلك الدعوى بطلباتهم
أنفة البيان. وبتاريخ أول مارس سنة 1992 قضت المحكمة الإدارية لرئاسة الجمهورية بعدم
اختصاصها ولائياً بنظرها, وبإحالتها إلى محكمة النقض، وأقامت قضاءها على نظر حاصله
أن قرارات التعيين في الوظائف القضائية تدخل في مدلول القرارات الإدارية النهائية المتعلقة
بالقضاة, مما يعقد الاختصاص بالفصل في الطعون المتعلقة بها لمحكمة النقض عملاً بالمادة
83 من قانون السلطة القضائية. طعن المدعون على ذلك الحكم أمام محكمة القضاء الإداري،
وقيد الطعن بجدولها برقم 153 لسنة 24 قضائية. وبتاريخ 26 من نوفمبر 1992, قضت تلك المحكمة
"بهيئة استئنافية" برفض الطعن؛ وذلك استناداً إلى أسباب لا تخرج في مجملها عن أسباب
حكم محكمة أول درجة. قدم المدعون – وآخرون – إلى محكمة النقض "دائرة طلبات رجال القضاء"
الطلبات أرقام 160، 161, 162, 163, 164, 165 لسنة 61 قضائية, 219 لسنة 62 قضائية بطلب
الحكم بإلغاء قرار رئيس الجمهورية المطعون فيه, مع ما يترتب على ذلك من آثار. وبتاريخ
13 من يوليو سنة 1992 قضت محكمة النقض بعدم قبول طلباتهم تلك، مقيمة قضاءها على نظر
حاصله أن شرط قبولها وفقاً لنص المادة 83 من قانون السلطة القضائية، هو أن يكون القرار
المطلوب إلغاؤه صادراً في شأن أحد رجال القضاء أو النيابة العامة, فإذا لم يكن من قدم
الطلب, متصفاً بإحدى هاتين الصفتين، فإن دعواه تكون غير مقبولة. وإذ تراءى للمدعين
أن كلاً من جهتي القضاء العادي والإداري قد تخلت عن نظر دعواهم, فقد أقاموا الدعوى
الماثلة بطلب فض هذا التنازع.
وحيث إن من المقرر في قضاء المحكمة الدستورية العليا, أن مناط قبول طلب الفصل في تنازع
الاختصاص – طبقاً للبند "ثانياً" من المادة 25 من قانونها – هو أن تطرح الدعوى عن موضوع
واحد أمام جهتين من جهات القضاء أو الهيئات ذات الاختصاص القضائي, ولا تتخلى إحداهما
عن نظرها, أو تتخلى كلتاهما عنها، وكان "بالتخلي" – في تطبيق أحكام البند المشار إليه
– مؤداه أن تعزل جهة القضاء أو الهيئة ذات الاختصاص القضائي نفسها عن نظر النزاع المعروض
عليها، سواء تم ذلك من خلال ما صَرَّح به قضاؤها من عدم اختصاصها بنظره, أم كان هذا
المعنى مندرجاً ضمناً في حكمها, ولازماً دلالة من استقراء أسبابه المرتبطة بمنطوقه
ارتباطاً لا يقبل التجزئة، وكان من المقرر كذلك – ومن زاوية دستورية – أن الولاية التي
أثبتها المشرع للمحكمة الدستورية العليا دون غيرها, والتي اختصها بموجبها بالفصل في
التنازع السلبي على الاختصاص, غايتها أن يكون لكل خصومة قضائية قاض يعود إليه أمر نظرها,
بقصد إنهاء النزاع موضوعها, ضماناً لفعالية إدارة العدالة بما يكفل إرساء ضوابطها واستيفاء
متطلباتها, وتوكيداً لحق كل فرد في النفاذ إلى القضاء نفاذاً ميسراً، لا تثقله أعباء
مالية, ولا تقيده عوائق إجرائية – على ما تقضى به المادة 68 من الدستور – وسعياً لإيصال
الحقوق إلى أصحابها من خلال محكمة محايدة ينشئها القانون, وتتوافر لاستقلالها وقواعد
عملها, الأسس الموضوعية التي يتمكن كل مواطن في كنفها من عرض دعواه, وإبداء دفاعه,
ومواجهة الحجج التي يدلي بها خصمه – رداً وتعقيباً – في إطار من الفرص المتكافئة؛ وكان
حق التقاضي, لا يبلغ الغاية المقصودة منه, ما لم توفر جهة القضاء للخصومة في نهاية
مطافها, حلاً منصفاً، يمثل الترضية القضائية التي يعمد من يطلبها, إلى الحصول عليها,
لمواجهة الإخلال بالحقوق التي يدعيها؛ متى كان ذلك، فإن هذه الترضية – وبافتراض مشروعيتها
واتساقها مع أحكام الدستور – تندمج في الحق في التقاضي لارتباطها بالغاية النهائية
التي يتوخاها, ذلك أن الخصومة القضائية لا تقام للدفاع عن مصلحة نظرية لا تتمحض عنها
فائدة عملية؛ بل غايتها اقتضاء منفعة يقرها القانون, وتحدد على ضوئها حقيقة المسألة
المتنازع عليها, وحكم القانون بشأنها. واندماج هذه الترضية في الحق في التقاضي, مؤداه
أنها من مكوناته, ولا سبيل لفصلها عنه, وإلا فقد هذا الحق مغزاه وآل سراباً.
وحيث إن قضاء المحكمة الدستورية العليا مطرد كذلك, على أن إنكار الحق في الترضية القضائية
سواء بمنعها ابتداء؛ أو بإقامة العراقيل في سبيل اقتضائها, أو بتقديمها متباطئة متراخية
دون مسوغ, أو بإحاطتها بقواعد إجرائية تكون معيبة في ذاتها بصفة جوهرية, لا يعد أن
يكون إهداراً للحماية التي يفرضها الدستور والقانون للحقوق التي يُدَّعى الإخلال بها,
وهدماً للعدالة في جوهر خصائصها وأدق توجهاتها, وبوجه خاص كلما كان طريق الطعن القضائي
لرد الأمور إلى نصابها ممتنعاً أو غير منتج.
وحيث إن البين من الأوراق, أن منازعة المدعين الموضوعية قد صدر فيها حكمان أولهما من
جهة القضاء الإداري منتهياً إلى عدم اختصاصها ولائياً بنظرها, وثانيهما عن دائرة رجال
القضاء بمحكمة النقض قاضياً بعدم قبول طلبهم إلغاء القرار المطعون فيه, ابتناء على
أن قانون السلطة القضائية لا يخولها غير الفصل في طلبات إلغاء القرارات الإدارية النهائية
الصادرة في شأن أحد رجال القضاء, أو أعضاء النيابة العامة, فإذا كان طلب إلغاء القرار
المطعون فيه مقدماً من غير هؤلاء، دل ذلك على انتفاء صفتهم في عرض هذه الطلب عليها؛
بما مؤداه أن مباشرة هذه الدوائر لاختصاصها بالفصل في الطلبات أنفة البيان, عائد إلى
تعاقد بأحد رجال القضاء أو النيابة العامة, وأن صفتهم هذه هي مدار ولايتها المنصوص
عليها في المادة 83 من قانون السلطة القضائية؛ متى كان ذلك, فإن حكمها بعدم قبول الطلبات
المقدمة إليها – في واقعة النزاع الراهن – ينحل قانوناً إلى قضاء بعدم اختصاصها بنظرها.
إذ كان ما تقدم وكان النزاع الموضوعي, قد بات بغير قاض يفصل فيه, فإن مناط الفصل في
طلب التنازع السلبي على الاختصاص يكون متحققاً.
وحيث إن الدستور, إذ عهد في المادة 172 إلى مجلس الدولة كهيئة قضائية لها استقلالها،
بالفصل في المنازعات الإدارية، والدعاوى التأديبية، فقد دل بذلك على أن ولايته في شأنها
هي ولاية عامة, وأنه أضحى قاضي القانون العام بالنسبة إليها, وأن المسائل التي اختص
بها لم تعد محددة حصراً في أحوال بذاتها, وأن عموم ولايته هذه, وانبساطها على المنازعات
الإدارية على تباين صورها, لا يعني غل يد المشرع عن إسناد الفصل في بعضها إلى جهات
قضائية أخرى, على أن يكون ذلك استثناء، وبالقدر، وفي الحدود التي يقتضيها الصالح العام,
وفي إطار التفويض المخول للمشرع بنص المادة 167 من الدستور, في شأن تحديد الهيئات القضائية
وتقرير اختصاصاتها وتنظيم طريقة تشكيلها، وكان اختصاص دوائر المواد المدنية والتجارية
بمحكمة النقض دون غيرها – وفقاً لنص المادة 83 من قانون السلطة القضائية – بالفصل في
الطلبات التي يقدمها رجال القضاء والنيابة العامة بإلغاء القرارات الإدارية النهائية
المتعلقة بأي شأن من شئونهم، متى كان مبنى الطلب عيباً في الشكل, أو مخالفة للقوانين,
أو اللوائح، أو الخطأ في تطبيقها, أو تأويلها, أو إساءة استعمال السلطة, لا يعدو أن
يكون استثناء من أصل خضوع المنازعات الإدارية جميعها للولاية التي عقدها الدستور لمحاكم
مجلس الدولة, وهو استثناء تقرر لمصلحة جوهرية، لها اعتبارها، بحسبان أن الدوائر المدنية
والتجارية بمحكمة النقض, أكثر خبرة ودراية بأوضاع جهة القضاء العادي وشئون أعضائها،
وأولى بالفصل في منازعاتهم، وكان انعقاد الاختصاص لهذه الدوائر على النحو المتقدم,
لا يقتضي بالضرورة أن يكون طلب إلغاء القرار المطعون فيه، مقدماً من أحد رجال القضاء
والنيابة العامة، بل يكفي لقيام هذا الاختصاص، أن يؤول طلب الإلغاء إلى التأثير في
المركز القانوني لأحدهم, ولو كان مقدماً من غيرهم, إذ يعتبر الطلب في هاتين الحالتين
– كلتيهما – متصلاً بشأن من شئونهم، وهو ما أكدته المحكمتان الدستورية العليا والإدارية
العليا في مقام تحديدهما لدلالة ما ورد في قانونيهما من نصوص تقابل حكم المادة 83 من
قانون السلطة القضائية المشار إليه.
وحيث إن قضاء هذه المحكمة قد اطرد على أن المشرع إذ ناط بالمحكمة الدستورية العليا
– دون غيرها – الفصل في تنازع الاختصاص الولائي بتعيين الجهة القضائية المختصة وفقاً
للبند ثانياً من المادة 25 من قانونها, فإن مقتضى الحكم الصادر عنها بتعيين هذه الجهة,
إسباغ الولاية عليها من جديد, بحيث تلتزم بنظر الدعوى، غير مقيدة بسبق تخليها عن نظرها؛
ولو كان حكمها في هذا الشأن قد أصبح نهائياً.
فلهذه الأسباب
حكمت المحكمة بتعيين جهة القضاء العادي "دائرة طلبات رجال القضاء بمحكمة النقص" جهة مختصة بنظر النزاع.