المحكمة الدستورية – القضية رقم 34 لسنة 15 قضائية – جلسة 02 /03 /1996
أحكام المحكمة الدستورية العليا – الجزء السابع
من أول يوليو 1995 حتى آخر يونيو 1996 – صـ 520
جلسة 2 مارس سنة 1996
برئاسة السيد المستشار الدكتور/ عوض محمد عوض المر رئيس المحكمة، وحضور السادة المستشارين/ عبد الرحمن نصير وسامى فرج يوسف والدكتور عبد المجيد فياض ومحمد على سيف الدين وعدلى محمود منصور وحمد عبد القادر عبد الله، وحضور السيد المستشار الدكتور/ حنفى على جبالى – رئيس هيئة المفوض، وحضور السيد/ حمدى أنور صابر – أمين السر.
قاعدة رقم
القضية رقم 34 لسنة 15 قضائية "دستورية"
1- دعوى دستورية "مناطها: حالتا الدفع والإحالة"
نطاق الدعوى المقامة عن طريق الدفع الفرعى إنما يتحدد بنطاق الدفع بعدم الدستورية
الذى ابداه الخصم أمام محكمة الموضوع وفى الحدود التى تقدر فيها جديته. المسائل
الدستورية المحالة مباشرة من محكمة الموضوع لازمها بيان النصوص القانونية المخالفة
للدستور ونطاق التعارض بينهما، وإن يكون قضاؤها بالإحالة دالاً على انعقاد إرادتها
على استنهاض ولاية المحكمة الدستورية العليا بالفصل فى هذه المسائل، لتحدد على ضوء
قضائها القاعدة القانونية الواجبة التطبيق على النزاع الموضوعي.
2- دعوى دستورية "المصلحة المباشرة: مناطها".
مناط المصلحة الشخصية المباشرة – وهى شرط لقبول الدستورية – أن يقوم ثمة ارتباط بينها
وبين المصلحة القائمة فى الدعوى الموضوعية وذلك بأن يكون الحكم الصادر فى المسائل الدستورية
مؤثراً فى الطلبات الموضوعية المرتبطة بها والمطروحة على محكمة الموضوع.
3- دعوى دستورية "نطاقها: ارتباط" – المحكمة الدستورية العليا "هيمنتها على الدعوى"
– تشريع "القانون رقم 48 لسنة 1982 فى شأن حماية مجرى النيل من التلوث".
هيمنة المحكمة الدستورية العليا على الخصومة الدستورية وبمراعاة قصد المدعى منها يقتضيها
أن تدخل فى نطاقها ما يكون من النصوص القانونية مرتبطاً ارتباطاً لازماً بالنصوص المطعون
فيها – اقتصار المدعى على الطعن بعدم دستورية المادة الثانية من هذا القانون. الأفعال
التى حظرها المشرع بنص هذه المادة لم تنتقل إلى دائرة التجريم إلا بنص مادته السادسة
عشرة – نطاق الطعن ينبغى أن يتحدد بهاتين المادتين باعتبارهما متضاممتين.
4- موارد مائية "صونها".
صون الموارد المائية من ملوثاتها يعتبر فرضاً أولياً لكل عمل يتوخى التنمية الأشمل
والأعمق.
5- الحق فى التنمية: مواثيق دولية: الإعلان الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة
فى 4/ 12/ 1986 بشأن التنمية – مؤتمرات دولية "المؤتمر الدولى لحقوق الإنسان، المنعقد
فى فيينا فى 14/6 / 1993.
الحق فى التنمية وثيقة الصلة بالحق فى الحياة وكذلك بالحق فى بناء قاعدة اقتصادية تتوافر
أسبابها – اهمية التنمية بوصفها من الحقوق الإنسانية التى لا يجوز النزول عنها – تعاون
الدول فيما بينها من أجل ضمانها وإنهاء معوقاتها – ارتباط التنمية بالديمقراطية وصون
حقوق الإنسان واحترامها – تعاون الدول فيما بينها من أجل مجابهة الإغراق غير المشروع
لمواد سمية أو جواهر خطرة أو لفضلاتها ونفاياتها.
6- تشرع "القانون رقم 48 لسنة 1982 فى شأن حماية مجرى النيل والمجارى المائية من التلوث".
إدراك المشرع بهذا القانون خصائص التنمية بكل معطياتها وأدواتها وعناصرها من الموارد
البشرية – تقريره مبدأ عاماً مؤداه حظر إلقاء المخلفات – بكافة حالاتها – أو صرفها
فى مجارى المياه إلا بناء على ترخيص يصدر فى الأحوال ووفقاً للضوابط المنصوص عليها
فيه – تقريره جزاءً جنائياً على الإخلال بهذا الحظر.
7- دستور "المادة 16 منه – تدخل متدرج"
تقديم الدولة لخدماتها الثقافية والاجتماعية والصحية وفقاً لهذه المادة يقتضيها تدخلاً
إيجابياً من خلال الاعتماد على موارده الذاتية – اشباعها لخدماتها هذه يكون متدرجاً
وواقعاً فى حدود إمكانياتها.
8- الحقوق المدنية والسياسية – الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية – "تدخل متتابع".
هذه الحقوق تعتبر من الحقوق التى تمليها آدمية الإنسان وجوهره – فلا تتكامل شخصيته
بدونها – وهى مدخل للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتى توخى ضمانها للإنسان
تطوير أوضاع البيئة التى تواجد فيها مناهضةً للفقر والجوع والمرض بوجه خاص – تحقيق
هذه الحقوق فى بلد ما مرتبط بأوضاعها وقدراتها فلا تنفذ نفاذاً فورياً – تدخل الدولة
إيجابياً لصونها يكون متتابعاً. منصرفاً لبعض مدنها وقراها إذا أعوزتها قدراتها على
بسط مظلتها على المواطنين جميعاً.
9- الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية "مواثيق دولية": الاتفاقية الأمريكية لحقوق
الإنسان – المعهد الدولى للحقوق الاقتصادية والثقافية والاجتماعية – إيفاء متتابع"
تعهد الدول الأطراف فى المواثيق الدولية، المشار إليها – ومنها مصر – باتخاذ التدابير
اللازمة التى يقتضيها التحقيق الكامل للحقوق الاقتصادية والثقافية والاجتماعية، على
أن يكون تنفيذيها متتابعاً وبأقصى ما تسمح به مواردها.
10- تشريع "القانون المشار إليه – صرف صحي"
الترخيص الصادر وفق القانون بإلقاء المخلفات – بعد معالجتها – فى مجارى المياه، يعتبر
بديلاً مؤقتاً عن مرفق الصرف الصحى عند تخلفه وإلى أن يتم إحداثه.
11- مبدأ المساواة "معاملة متكافئة – صور التمييز"
مبدأ مساواة المواطنين أمام القانون لا يعنى معاملة فئاتهم على تباين مراكزهم معاملة
قانونية متكافئة ولا معارضة صور التمييز على اختلافها – من بينها ما يستند إلى علاقة
منطقية بين النصوص القانونية التى تبنها المشرع لتنظيم موضوع معين والنتائج التى رتبها
عليها. موافقة التمييز – بالتالى – أحكام الدستور.
12- تشرع "المادة 2 من القانون رقم 48 لسنة 1982 المشار إليه: عدم المخالفة لمبدأ المساواة"
الحظر المقرر بهذه المادة مقرر بمقتضى قاعدة قانونية عامة مجردة لا تقيم فى مجال سريانها
تمييزاً بين المخاطبين بها. لا مخالفة فيها لمبدأ المساواة.
13- تشريع "المادتان 2، 16 من القانون المشار إليه: انتفاء الأثر الرجعي"
تجريم المشرع بنص المادة 16 الأفعال المنافية للحظر المقرر بنص المادة 2 – ما تم من
هذه الأفعال مشتملاً على عناصرها جميعا قبل نفاذ ذلك القانون، وظل مستمراً بعده، يعتبر
جريمة معاقباً عليها وفقاً لأحكام هذا القانون.
14- المحكمة الدستورية العليا "ولايتها"
المسائل الدستورية التى يستنهض الفصل فيها ولاية المحكمة الدستورية العليا هى تلك التى تثير تعارضاً بين القواعد الآمرة فى الدستور وما دونها من القواعد القانونية – ليس
من قبيل ذلك التعارض بين قاعدتين قانونيتين من مرتبة واحدة.
1، 2، 3- إن نطاق الدعوى الدستورية التى تقام عن طريق الدفع وفقاً للبند ب من المادة
29 من قانون المحكمة الدستورية العليا، إنما يتحدد بنطاق الدفع بعدم الدستورية الذى أبداه خصم أمام محكمة الموضوع، وفى الحدود التى تقدر فيها جديته؛ وكانت المسائل الدستورية
التى تقضى محكمة الموضوع بإحالتها مباشرة إلى المحكمة الدستورية العليا عملاً بالبند
أ من المادة 29 من قانونها، لازمها أن تبين النصوص القانونية التى تقدر مخالفتها للدستور،
ونطاق التعارض بينهما، وأن يكون قضاؤها هذا دالاً على اتجاهها إلى عرض المسائل الدستورية
التى ارتأتها – مباشرة – على المحكمة الدستورية العليا استنهاضاً لولايتها بالفصل فيها،
لتحدد على ضوء قضائها القاعدة القانونية التى ينبغى تطبيقها فى النزاع الموضوعي؛ وكان
من المقرر كذلك أن المصلحة الشخصية المباشرة – وهى شرط لقبول الدعوى الدستورية – مناطها
أن يقوم ثمة ارتباط بينها وبين المصلحة القائمة فى النزاع الموضوعى وذلك بأن يكون الحكم
الصادر فى المسائل الدستورية مؤثراً فى الطلبات الموضوعية المرتبطة بها والمطروحة على
محكمة الموضوع؛ وكان قضاء هذه المحكمة قد جرى على أن هيمنتها على الخصومة الدستورية
وتوجهيها لإجراءاتها، وبمراعاة ما قصده المدعى منها، يقتضيها أن تُدْخل فى نطاق المسائل
الدستورية التى تدعى للفصل فيها، ما يكون من النصوص القانونية مرتبطاً ارتباطاً لازماً
بالنصوص المطعون عليها؛ وكان من المقرر أن كل اتهام بجريمة يعنى أن مرتكبها قد أتى
فعلاً معاقباً عليه قانونا، وكانت جريمة إلقاء المخلفات فى المجارى المائية التى نسبتها
النيابة العامة إلى المدعى، تفترض تجريم المشرع لهذا الفعل من خلال العقوبة التى فرضها
على من أتاه، وكان المدعى وإن دفع أمام محكمة الموضوع بعدم دستورية المادتين الأولى
والثانية من القانون رقم 48 لسنة 1982 فى شأن حماية مجرى النيل والمجارى المائية من
التلوث، ثم قصر دعواه الدستورية على النعى على مادته الثانية وحدها مخالفتها للدستور،
إلا أن نطاق الطعن أمام هذه المحكمة ينبغى أن يتحدد بالمادتين 2 و16 من هذا القانون
باعتبارهما متضاممتين، ذلك أن الأفعال التى حظرها المشرع بنص المادة الثانية من ذلك
القانون، لم تنتقل إلى دائرة التجريم إلا بنص مادته السادسة عشرة.
4- إن التطور الإيجابى للتنمية، لا يتحقق بمجرد توافر الموارد الطبيعية على اختلافها،
بل يتعين أن تقترن وفرتها بالاستثمار الأفضل لعناصرها. وإذ كان الماء أغلى هذه الموارد
وأكثرها نفعاً باعتباره نبض الحياة وقوامها، فلا يجوز أن يبدد إسرافاً، فإن الحفاظ
عليه قابلاً للاستخدام فى كل الأغراض التى يقبلها، يغدو واجباً وطنياً، وبوجه خاص فى كبرى مصادره ممثلاً فى النيل والترع المنتشرة فى مصر – ليس لإحياء الأرض وحدها أو إنمائها
– بل ضماناً للحد الأدنى من الشروط الصحية للمواطنين جميعاً، وارتكاناً لوسائل علمية
تؤمن المياه نوعيتها، وتطرح الصور الجديدة لاستخداماتها لتعم فائدتها. وإذا كان تراكم
الثروة يقتضى جهداً وعقلاً واعياً، فإن صون الموارد المائية من ملوثاتها، يعتبر مفترضا
أوليا لكل عمل يتوخى التنمية الأشمل والأعمق. بيد أن اتجاهها لتلويثها بدا أول الأمر
محدوداً، ثم تزايد حدة مع الزمن، وصار بالتالى محفوفاً بمخاطر لا يستهان بها تنال من
المصالح الحيوية لأجيال متعاقبة بتهديدها لأهم مصادر وجودها، وعلى الأخص مع تراجع الوعى القومي، وإيثار بعض الأفراد لمصالحهم وتقديمها وعلى ما سواها. وقد كان للصناعة كذلك
مخرجاتها من المواد العضوية الضاره التى تتعاظم تركيزاتها أحياناً ليكون تسربها إلى
المياه وكائناتها الحية، هادماً لخصائصها، وكان لغيرها من الأماكن مخالفتها أيضاً السائلة
منها والصلبة والغازية التى تزايد حجمها وخطرها تبعاً لتطور العمران تطورا كبيرا ومفاجئا،
بل وعشوائيا فى معظم الأحيان. واقترن بذلك بإهمال التقيد بالضوابط والمعايير التى تجعل
صرفها فى تلك الموارد المائية على اختلافها مأموناً أو على الأقل محدود الأثر، وكذلك
بقصور التدابير اللازمة لرصد مصادر تلوثها والسيطرة عليها أو لمكافحتها بعد وقوعها.
5- إن الحق فى التنمية – وعلى ما تنص عليه المادة الأولى من العهد الدولى للحقوق المدنية
والسياسية – وثيق الصلة بالحق فى الحياة، وكذلك بالحق فى بناء قاعدة اقتصادية تتوافر
أسبابها، وعلى الأخص من خلال اعتماد الدول – كل منها فى نطاقها الإقليمى – على مواردها
الطبيعية ليكون الانتفاع بها حقاً مقصوراً على أصحابها. وقد أكد الإعلان الصادر فى 4/ 12/ 1986 عن الجمعية العامة للأمم المتحدة فى شأن التنمية 41/ 128 أهميتها بوصفها
من الحقوق الإنسانية التى لا يجوز النزول عنها؛ وأن كل فرد ينبغى أن يكون مشاركاً إيجابياً
فيها، باعتباره محورها، وإليه يرتد عائدها؛ وأن مسئولية الدول فى شأنها مسئولية أولية
تقتضيها أن تتعاون مع بعضها البعض من أجل ضمانها وإنهاء معوقاتها، وأن تتخذ التدابير
الوطنية والدولية التى تيسر الطريق إلى التنمية بما يكفل الأوضاع الأفضل للنهوض الكامل
بمتطلباتها؛ وعليها أن تعمل – فى هذا الإطار – على أن تقيم نظاماً اقتصادياً دولياً
جديداً يؤسس على تكافؤ الدول فى سياستها وتداخل علائقها وتبادل مصالحها وتعاونها. وهذه
التنمية هى التى قرر المؤتمر الدولى لحقوق الإنسان المنعقد فى فيينا خلال الفترة من
14 إلى 25 يونيو 1993 ارتباطها بالديموقراطية، وبصون حقوق الإنسان واحترامها، وأنها
جميعاً تتبادل التأثير فيما بينها، ذلك أن الديموقراطية أساسها الارادة الحرة فى التى تعبر الأمم من خلالها عن خياراتها لنظمها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية،
وإسهامها المتكامل فى مظاهر حياتها على اختلافها. كذلك فإن استيفاء التنمية لمتطلباتها
– وباعتبارها جزءاً لا يتجزأ من حقوق الإنسان لا يقبل تعديلاً أو تحويلاً – ينبغى أن
يكون إنصافاً لكل الأجيال، لتقابل احتياجاتها البيئية والتنموية، وعلى تقدير أن الحق
فى الحياة، وكذلك صحة كل إنسان، يتعرضان لأفدح المخاطر من جراء قيام البعض بالإغراق
غير المشروع لمواد سمية أو لجواهر خطرة، أو لفضلاتهم ونفاياتهم. ومن ثم يدعو المؤتمر
الدول جميعها لأن تتعاون فيما بينها من أجل مجابهة هذا الإغراق غير المشروع، وأن تقبل
التقيد بكل معاهدة دولية معمول بها فى هذا المجال، وتنفيذها تنفيذاً صارماً.
6- إن خصائص التنمية – بكل معطياتها وأدواتها وعناصرها من الموارد البشرية – هى التى أدركها المشرع بالقانون رقم 48 لسنة 1982 فى شأن حماية مجرى النيل والمجارى المائية
من التلوث، وهى كذلك التى رعتها لائحته التنفيذية التى صدر بها القرار رقم 8 لسنة 1983،
وتعديلاتها، ذلك أن المشرع توخى بنص المادة الثانية من القانون، تقرير مبدأ عام مؤداه
حظر إلقاء المخلفات الصلبة، أو الغازية، أو السائلة، أو صرفها فى مجارى المياه على
كامل أطوالها ويندرج تحتها مسطحاتها من المياه العذبة كنهر النيل وفرعيه والأخوار والترع
بكل أنواعها والخزانات الجوفية على امتداد جمهورية مصر العربية، وكذلك مسطحاتها غير
العذبة كبحيراتها وبركها ومصارفها بجميع درجاتها. وسواء كانت هذه المخلفات قد تأتت
من عقار، أو من أحد المحال التجارية، أو الصناعية، أو السياحية، أو من عمليات الصرف
الصحي، أو غيرها. فلا استثناء من حظر إلقائها أو صرفها فى مجارى المياه، إلا أن يكون
ذلك بناء على ترخيص يصدر فى الأحوال، ووفق الضوابط والمعايير التى يحددها وزير الرى بناء على اقتراح وزير الصحة، وينبغى دوماً أن يكون الترخيص متضمنا تحديدا للمعايير
والمواصفات الخاصة بكل حالة على حدة.
وضماناً لردع المسئولين عن الإخلال بالحظر المنصوص عليه فى المادة الثانية من هذا القانون
– نص هذا القانون فى مادته السادسة عشرة على ما يأتى [مع عدم الإخلال بالأحكام المقررة
بقانون العقوبات، يعاقب على مخالفة أحكام المواد 2 و3 فقرة أخيرة و4 و5 و7 من هذا القانون
والقرارات المنفذة لها، بالحبس مدة لا تزيد على سنة وغرامة لا تقل عن خمسمائة جنيه
ولا تزيد على ألفى جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين..]
7، 8، 9- تقديم الدولة لخدماتها الثقافية والاجتماعية والصحية وفقاً لنص المادة 16
من الدستور، يقتضيها تدخلاً إيجابياً من خلال الاعتماد على مواردها الذاتية التى تتيحها
قدراتها، ليكون إشباعها لخدماتها هذه، متدرجاً وواقعاً فى حدود إمكاناتها، خلافاً لموقفها
من الحقوق الفردية السلبية – كالحق فى الحياة وفى الحرية – التى يكفيها لصونها مجرد
الامتناع عن التدخل فى نطاقها بما يقيد أو يعطل أصل الحق فيها. ولئن جاز القول بأن
الحقوق المدنية والسياسية، لا يمكن فصلها عن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية
سواء فى مجال توجهاتها أو بالنظر إلى عموم تطبيقها فيما بين الدول، وأن النوع الأول
من الحقوق يعتبر مدخلاً لثانيهما، وشرطاً أولياً لتحقيق وجوده عملاً، إلا أن الفوارق
بين هذين النوعين من الحقوق، تكمن فى أصل نشأتها وعلى ضوء مراميها، ذلك أنه بينما تعتبر
الحقوق المدنية والسياسية من الحقوق التى تمليها آدمية الإنسان وجوهره – إلى حد وصفها
بخصائص بنى البشر أو بالحقوق الطبيعية الأسبق على الجماعة التى ارتبط بها، فلا تتكامل
شخصيته بدونها، ولا يوجد سوياً فى غيبتها، ولا يحيا إلا بالقيم التى ترددها، ليملك
بها إرادة الاختيار مشكلاً طرائق للحياة يرتضيها؛ فإن ضمان الحقوق الاقتصادية والاجتماعية
والثقافية للإنسان، توخى دوماً تطوير أوضاع البيئة التى تواجد فيها مستظلاً بها، ليعيد
تكوين بنيانها، مستمداً رخاءه من الآفاق الجديدة التى تقتحمها. وهى بحكم طبيعتها هذه،
تتصل حلقاتها عبر الزمن، وعلى امتداد مراحل لا تفرضها الأهواء، بل تقررها الدول على
ضوء أولويتها، وبمراعاة مواردها القومية، وبقدرها، ولئن جاز القول بأن الحقوق المدنية
والسياسية تمهد فى الأعم الطريق إلى بناء الهياكل الرئيسية للتنمية وفق الارادة الحرة،
إلا أن الحقوق الاجتماعية والثقافية والصحية تناهض الفقر والجوع والمرض بوجه خاص، ويستحيل
النظر إلى طبيعتها، ضمانها لكل الناس فى آن واحد، بل يكون تحقيقها فى بلد ما، مرتبطاً
بأوضاعها وقدراتها ونطاق تقدمها، وعمق مسئولياتها قبل مواطنيها، وإمكان النهوض بمتطلباتها.
فلا تنفذ هذه الحقوق بالتالى نفاذاً فورياً، بل تنمو وتتطور وفق تدابير تمتد زمناً،
وتتصاعد تكلفتها بالنظر إلى مستوياتها وتبعاً لنطاقها، ليكون تدخل الدولة إيجابياً
لصونها متتابعاً، واقعاً فى أجزاء من إقليمها، منصرفاً لبعض مدنها وقراها إذا أعوزتها
قدراتها على بسط مظلتها على المواطنين جميعاً، ذلك أن مسئولياتها عنها، مناطها إمكاناتها،
وفى الحدود التى تتيحها، ومن خلال تعاون دولى أحياناً، يؤيد ما تنص عليه المادة 26
من الاتفاقية الأمريكية لحقوق الإنسان (سان خوسيه فى 22/ 11/ 1969) من أن الدول أطرافها
تتعهد بأن تتخذ – داخلياً ومن خلال التعاون الدولى – التدابير اللازمة وعلى الأخص الاقتصادية
والتقنية منها، بقصد التوصل تدريجياً عن طريق السلطة التشريعية أو غيرها من الوسائل
الملائمة، إلى التحقيق الكامل للحقوق التى تتضمنها المعاير الاقتصادية والاجتماعية
والتربوية والعلمية والثقافية التى يشتمل عليها ميثاق منظمة الدول الأمريكية معدلاً
ببرتوكول بيونس أيرس.
وعملاً بالفقرة الأولى من المادة الثامنة من العهد الدولى للحقوق الاقتصادية والاجتماعية
والثقافية (26/ 12/ 1966) تتعهد كل الدول المعتبرة طرفا فى هذا العهد – ومن بينها
مصر – بأن تتخذ بمفردها وكذلك بالتعاون مع غيرها من الدول من الناحيتين الاقتصادية
والتقنية، التدابير الملائمه – وعلى الأخص التشريعية منها – التى يقتضيها التحقيق الكامل
للحقوق التى أقرها ذلك العهد، على أن يكون إيفاؤها متتابعاً، وبأقصى ما تسمح به مواردها.
10- حظر إلقاء المخلفات الصلبة أو السائلة أو الغازية فى مجارى المياه على كامل أطوالها
ومسطحاتها ليس مطلقاً، بل يجوز الاستثناء منه فى أحوال بذاتها يقدرها الوزير المختص،
ووفق ترخيص لا يصدر إلا بعد معالجتها، توقياً لأضرارها، وبما يكفل لكل حالة على حدة،
التقيد بالمعايير والضوابط التى يتطلبها القانون. فإذا تبين عند تحليها – وبعد معالجتها
– أنها لا تزال تؤثر فى نوعية المياه وصلاحية استخدامها لكل الأغراض، وأن جهداً لم
يبذل لضمان التقيد بالمعايير والضوابط اللازمة لصرفها، حق للجهة الإدارية المختصة إلغاء
الترخيص. ومن ثم يكون صدور الترخيص واستمراره، مرتبطاً بأحوال بذاتها تمثل ظرفاً قاهراً
تقدر فيه الضرورة بقدرها، ووفق شروط وأوضاع لا يجوز التحلل منها، فلا تكون المجارى المائية نهباً لمعتدين يلوثونها بمخلفاتهم دون عائق، بل يكون صرفها فيها محدداً بمقاييس
صارمة زمامها بيد الجهة الإدارية، وهو ما يعنى أن الترخيص الصادر عنها، يعتبر بديلاً
مؤقتاً عن مرافق الصرف الصحى عند تخلفها، وإلى أن يتم إحداثها.
11- مبدأ مساواة المواطنين أمام القانون، لا يعنى أن تعامل فئاتهم – على تباين مراكزهم
القانونية – معاملة قانونية متكافئة، ولا معارضة صور التمييز على اختلافها، ذلك أن
من بينها ما يستند إلى علاقة منطقية بين النصوص القانونية إلى تبناها المشرع لتنظيم
موضوع معين، والنتائج التى رتبها عليها، ليكون التمييز بالتالى موافقاً لأحكام الدستور
التى ينافيها انفصال هذه النصوص عن أهدافها، وتوخيها مصالح ضيقة لا تجوز حمايتها؛ وكان
الحظر المقرر بنص المادة 2 المطعون عليها، لا يتعلق ببعض المواطنين دون بعض، ولا بمن
يكون منهم مقيماً فى جهة بذاتها بجمهورية مصر العربية، بل ينطبق على مدنها وقراها جميعاً،
وترتيبا على واقعة بذاتها هى إلقاؤهم لمخلفاتها أو صرفها فى الموارد المائية؛ ومقرراً
بمقتضى قاعدة قانونية عامة مجرده لا تقيم فى مجال سريانها تمييزاً بين المخاطبين بها،
بل تنتظمهم جميعاً أحكامها التى ربطها المشرع بمصلحة عامة تتمثل فى صون الأوضاع الأفضل
لبيئتهم؛ فإن النعى عليه مخالفة المادة 40 من الدستور يكون منتحلاً.
13- ما ينعاه المدعى على المادتين 2 و16 من القانون رقم 48 لسنة 1982 فى شأن حماية
نهر النيل والمجارى المائية من التلوث، من تأثيمهما أفعالاً بذواتها استقرت بها قبل
التجريم مراكز قانونية لا تجوز تعديلها أو الإخلال بها، ولا سريان القوانين الجنائية
عليها بأثر رجعي، مردود بأن الأفعال التى جرمها المشرع – واعتباراً من تاريخ نفاذ القانون
رقم 48 لسنة 1982 المشار إليه – هى إلقاء المخاطبين بأحكامه لمخلفاتهم فى المجارى المائية
التى حددها حصراً المادة الأولى من هذا القانون. وإذ كان ارتكابها غير مقصور على لحظة
زمنية بذاتها، فإن ما تم منها مشتملاً على عناصرها جميعاً قبل نفاذ ذلك القانون، وظل
مستمراً بعده، يعتبر جريمة معاقباً عليها وفقا لأحكامه.
14- إن ما ينعاه المدعى من أن قانون الرى والصرف الصادر بالقانون رقم 12 لسنة 1984،
قد ألغى الأحكام التى تضمنها القانون رقم 48 لسنة 1982 فى شأن حماية نهر النيل والمجارى المائية من التلوث، مردوداً أولاً: بأن لكل من هذين القانونين مجالاً يعمل فيه، ولا
يتصور أن يتعارضا. ذلك أنه بينما يتوخى أولهما تطوير نظم الرى والصرف ورفع كفاءتها
لضمان الانتفاع الأمثل بمصادر المياه وتوفير أكبر قدر ممكن منها بقصد زيادة الإنتاج
الزراعى الذى يحتل مكان الصدارة من الثورة القومية للبلاد؛ فإن ثانيهما يتغيا صون نهر
النيل وغيره من المجارى المائية التى حددها مما يلوثها. ومردود ثانياً بأن المسائل
الدستورية التى يستنهض الفصل فيها ولاية المحكمة الدستورية العليا، هى تلك التى تثير
تعارضاً بين القواعد الآمرة التى يشتمل عليها الدستور، وما دونها من القواعد القانونية.
ولا كذلك التعارض بين قاعدتين قانونيتين تتحدان فى مرتبتيهما.
الإجراءات
بتاريخ 4 ديسمبر سنة 1993 أودع المدعى صحيفة هذه الدعوى قلم كتاب
المحكمة طالبا الحكم بعدم دستورية المادة الثانية من القانون رقم 48 لسنة 1982 فى شأن حماية نهر النيل والمجارى المائية من التلوث، وذلك فيما تضمنته من حظر صرف مياه
الصرف الصحى فى المصارف العمومية.
قدمت هيئة قضايا الدولة مذكرة طلبت فيها الحكم برفض الدعوى.
وبعد تحضير الدعوى أودعت هيئة المفوضين تقريرا برأيها.
ونظرت الدعوى على الوجه المبين بمحضر الجلسة، وقررت المحكمة إصدار الحكم فيها بجلسة
اليوم.
المحكمة
وحيث إن الوقائع على ما يبين من صحيفة الدعوى وسائر الأوراق – تتحصل
فى أن النيابة العامة كانت قد قدمت المدعى إلى المحاكمة الجنائية فى الدعوى رقم 4492
لسنة 92 جنح مركز المحلة الكبرى، تأسيساً على أنه بتاريخ 16/ 11/ 1992 بقرية العامرية
مركز المحلة الكبرى، قام بصرف المخلفات فى المجارى المائية بدون ترخيص من الجهات المختصة،
وطلبت النيابة العامة عقابه بمقتضى المواد 1، 2، 16 من القانون رقم 48 لسنة 1982 فى شأن حمايه نهر النيل والمجارى المائية من التلوث. وأثناء نظر الدعوى أمام محكمة جنح
مركز المحلة الكبرى، دفع المدعى بجلسة 4/ 11/ 1993 بعدم دستورية المادتين الأولى والثانية
من القانون رقم 48 لسنة 1982 المشار إليه. وإذ قدرت محكمة الموضوع جدية الدفع، فقد
صرحت له باقامة دعواه الدستورية، فأقام الدعوى الماثلة. ثم قضت بجلسة 6/ 1/ 1994 بوقف
الدعوى تعليقاً لحين الفصل فى الطعن بعدم دستورية المادتين 2، 16 من القانون رقم 48
لسنة 1982 آنف البيان.
وحيث إن نطاق الدعوى الدستورية التى تقام عن طريق الدفع وفقاً للبند ب من المادة 29
من قانون المحكمة الدستورية العليا، إنما يتحدد بنطاق الدفع بعدم الدستورية الذى أبداه
خصم أمام محكمة الموضوع، وفى الحدود التى تقدر فيها جديته؛ وكانت المسائل الدستورية
التى تقضى محكمة الموضوع بإحالتها مباشرة إلى المحكمة الدستورية العليا عملاً بالبند
أ من المادة 29 من قانونها، لازمها أن تبين النصوص القانونية التى تقدر مخالفتها للدستور،
ونطاق التعارض بينهما، وأن يكون قضاؤها هذا دالاً على انعقاد إرادتها على أن تعرض –
مباشرة – المسائل الدستورية التى ارتأتها على المحكمة الدستورية العليا استنهاضاً لولايتها
بالفصل فيها، لتحدد على ضوء قضائها القاعدة القانونية التى ينبغى تطبيقها فى النزاع
الموضوعي؛ وكان من المقرر كذلك أن المصلحة الشخصية المباشرة – وهى شرط لقبول الدعوى
الدستورية – مناطها أن يقوم ثمة ارتباط بينها وبين المصلحة القائمة فى النزاع الموضوعى وذلك بأن يكون الحكم الصادر فى المسائل الدستورية مؤثراً فى الطلبات الموضوعية المرتبطة
بها والمطروحة على محكمة الموضوع؛ وكان قضاء هذه المحكمة قد جرى على أن هيمنتها على
الخصومة الدستورية وتوجهيها لإجراءاتها، وبمراعاة ما قصده المدعى منها، يقتضيها أن
تُدْخِل فى نطاق المسائل الدستورية التى تدعى للفصل فيها، ما يكون من النصوص القانونية
مرتبطاً ارتباطاً لازماً بالنصوص المطعون عليها؛ وكان من المقرر أن كل اتهام بجريمة
يعنى أن مرتكبها قد أتى فعلاً معاقباً عليه قانوناً؛ وكانت جريمة القاء المخلفات فى المجارى المائية التى نسبتها النيابة العامة إلى المدعى، تفترض تجريم المشرع لهذا الفعل
من خلال العقوبة التى فرضها على من أتاه، وكان المدعى وإن دفع أمام محكمة الموضوع بعدم
دستورية المادتين الأولى والثانية من القانون رقم 48 لسنة 1982 فى شأن حماية مجرى النيل
والمجارى المائية من التلوث، ثم قصر دعواه الدستورية على النعى على مادته الثانية وحدها
مخالفتها للدستور، إلا أن نطاق الطعن أمام هذه المحكمة ينبغى أن يتحدد بالمادتين 2
و16 من هذا القانون باعتبارهما متضاممتين، ذلك أن الأفعال التى حظرها المشرع بنص المادة
الثانية من ذلك القانون، لم تنتقل إلى دائرة التجريم إلا بنص مادته السادسة عشرة.
وحيث إن التطور الإيجابى للتنمية، لا يتحقق بمجرد توافر الموارد الطبيعية على اختلافها،
بل يتعين أن تقترن وفرتها بالاستثمار الأفضل لعناصرها. وإذا كان الماء أغلى هذه الموارد
وأكثرها نفعاً باعتباره نبض الحياة وقوامها، فلا يجوز أن يبدد إسرافاً، فإن الحفاظ
عليه قابلاً للاستخدام فى كل الأغراض التى يقبلها، يغدو واجباً وطنياً، وبوجه خاص فى كبرى مصادره ممثلاً فى النيل والترع المنتشرة فى مصر – ليس لإحياء الأرض وحدها أو إنمائها
– بل ضماناً للحد الأدنى من الشروط الصحية للمواطنين جميعاً، وارتكاناً لوسائل علمية
تؤمن المياه نوعيتها، وتطرح الصور الجديدة لاستخداماتها لتعم فائدتها. وإذا كان تراكم
الثروة يقتضى جهداً وعقلاً واعياً، فإن صون الموارد المائية من ملوثاتها، يعتبر مفترضا
أوليا لكل عمل يتوخى التنمية الأشمل والأعمق. بيد أن اتجاهها بدا أول الأمر محدوداً،
ثم تزايد حدة بمرور الزمن، وصار بالتالى محفوظاً بمخاطر لا يستهان بها تنال من المصالح
الحيوية لأجيال متعاقبة بتهديدها لأهم مصادر وجودها، وعلى الأخص مع تراجع الوعى القومي،
وإيثار بعض الأفراد لمصالحهم وتقديمها على ما سواها. وقد كان للصناعة كذلك مخرجاتها
من المواد العضوية الضارة التى تتعاظم تركيزاتها أحياناً ليكون تسربها إلى المياه وكائناتها
الحية، هادماً لخصائصها، وكان لغيرها من الأماكن مخلفاتها أيضاً السائلة منها والصلبة
والغازية التى تزايد حجمها وخطرها تبعاً لتطور العمران تطورا كبيرا ومفاجئا، بل وعشوائيا
فى معظم الأحيان. واقترن ذلك بإهمال التقيد بالضوابط والمعايير التى تجعل صرفها فى تلك الموارد المائية على اختلافها مأموناً أو على الأقل محدود الأثر، وكذلك بقصور التدابير
اللازمة لرصد مصادر تلوثها والسيطرة عليها أو لمكافحتها بعد وقوعها.
وحيث إن الحق فى التنمية – وعلى ما تنص عليه المادة الأولى من العهد الدولى للحقوق
المدنية والسياسية – وثيق الصلة بالحق فى الحياة، وكذلك بالحق فى بناء قاعدة اقتصادية
تتوافر أسبابها، وعلى الأخص من خلال اعتماد الدول – كل منها فى نطاقها الاقليمى – على
مواردها الطبيعية ليكون الانتفاع بها حقاً مقصوراً على أصحابها. وقد أكد الإعلان الصادر
فى 4/ 12/ 1986 عن الجمعية العامة للأمم المتحدة فى شأن التنمية 41/ 128 أهميتها بوصفها
من الحقوق الإنسانية التى لا يجوز النزول عنها؛ وأن كل فرد ينبغى أن يكون مشاركاً إيجابياً
فيها، باعتباره محورها، وإليه يرتد عائدها؛ وأن مسئولية الدول فى شأنها مسئولية أولية
تقتضيها أن تتعاون مع بعضها البعض من أجل ضمانها وإنهاء معوقاتها، وأن تتخذ التدابير
الوطنية والدولية التى تيسر الطريق إلى التنمية بما يكفل الأوضاع الأفضل للنهوض الكامل
بمتطلباتها؛ وعليها أن تعمل – فى هذا الإطار – على أن تقيم نظاماً اقتصادياً دولياً
جديداً يؤسس على تكافؤ الدول فى سياستها وتداخل علائقها وتبادل مصالحها وتعاونها. وهذه
التنمية هى التى قرر المؤتمر الدولى لحقوق الإنسان المنعقد فى فيينا خلال الفترة من
14 إلى 25 يونيو 1993 ارتباطها بالديموقراطية، وبصون حقوق الإنسان واحترامها، وأنها
جميعاً تتبادل التأثير فيما بينها، ذلك أن الديموقراطية أساسها إرادة الحرة فى التى تعبر الأمم من خلالها عن خياراتها لنظمها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية،
وإسهامها المتكامل فى مظاهر حياتها على اختلافها. كذلك فإن استيفاء التنمية لمتطلباتها
– وباعتبارها جزءاً لا يتجزأ من حقوق الإنسان لا يقبل تعديلاً أو تحويلاً – ينبغى أن
يكون إنصافاً لكل الأجيال، لتقابل احتياجاتها البيئية والتنموية، وعلى تقدير أن الحق
فى الحياة، وكذلك صحة كل إنسان، يتعرضان لأفدح المخاطر من جراء قيام البعض بالإغراق
غير المشروع لمواد سمية أو لجواهر خطرة، أو لفضلاتهم ونفاياتهم. ومن ثم يدعو المؤتمر
الدول جميعها لأن تتعاون فيما بينها من أجل مجابهة هذا الإغراق غير المشروع، وأن تقبل
التقيد بكل معاهدة دولية معمول بها فى هذا المجال، وتنفيذها تنفيذاً صارماً.
وحيث إن خصائص التنمية – بكل معطياتها وأدواتها وعناصرها من الموارد البشرية – هى التى أدركها المشرع بالقانون رقم 48 لسنة 1982 فى شأن حماية مجرى النيل والمجارى المائية
من التلوث، وهى كذلك التى رعتها لائحته التنفيذية التى صدر بها القرار رقم 1983، وتعديلاتها،
ذلك أن المشرع توخى بنص المادة الثانية من القانون، تقرير مبدأ عام مؤداه حظر إلقاء
المخلفات الصلبة، أو الغازية، أو السائلة، أو صرفها فى مجارى المياه على كامل أطوالها
ويندرج تحتها مسطحاتها من المياه العذبة كنهر النيل وفرعيه والأخوار والترع بكل أنواعها
والخزانات الجوفية على امتداد جمهورية مصر العربية، وكذلك مسطحاتها غير العذبة كبحيراتها
ومصارفها بجميع درجاتها. وسواء كانت هذه المخلفات قد تأتت من عقار، أو من أحد المحال
التجارية، أو الصناعية، أو السياحية، أو من عمليات الصرف الصحي، أو غيرها. فلا استثناء
من حظر إلقائها أو صرفها فى مجارى المياه، إلا أن يكون ذلك بناء على ترخيص يصدر فى الاحوال، ووفق الضوابط والمعايير التى يحددها وزير الرى بناء على اقتراح وزير الصحة،
وينبغى دوماً أن يكون الترخيص متضمناً تحديداً للمعايير والمواصفات الخاصة بكل حالة
على حدة.
وحيث إن المشرع – وضماناً لردع المسئولين عن الإخلال بالحظر المنصوص عليه فى المادة
الثانية من هذا القانون – نص فى مادته السادسة عشرة على ما يأتى [مع عدم الإخلال بالأحكام
المقررة بقانون العقوبات، يعاقب على مخالفة أحكام المواد 2 و3 فقرة أخيرة و4 و5 و7
من هذا القانون والقرارات المنفذة لها، بالحبس مدة لا تزيد على سنة وغرامة لا تقل عن
خمسمائة جنيه ولا تزيد على ألفى جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين..]
وحيث إن ما ينعاه المدعى من إخلال المادة 2 المطعون عليها بمبدأ تكافؤ الفرص المنصوص
عليه فى المادة 8 من الدستور مردود، بأن مضمون هذا المبدأ يتصل بالفرص التى تتعهد الدولة
بتقديمها، وإن إعماله يقع عند التزاحم عليها، وأن الحماية الدستورية لتلك الفرص غايتها
تقرير أولوية – فى مجال الانتفاع بها – يتقدم من خلالها بعض المتزاحمين على بعض وفق
أسس موضوعية تتحدد بها ضوابط هذا التقدم على ضوء متطلباتها من المصلحة العامة، فلا
تتقرر انحيازاً أو التواء، بل تبصراً واعتدالاً. متى كان ذلك، وكان أعمال النص المطعون
فيه لا يتصل بفرص قائمة يجرى التزاحم عليها، فإن النعى عليه بمخالفته المادة 8 من الدستور،
يغدو مفتقراً لسنده.
وحيث إن المدعى ينعى على المادة 2 المطعون عليها، إهدارها حكم المادة 16 من الدستور
التى تتعهد الدولة بموجبها بأن تقدم لمواطنيها خدماتها الصحية والاجتماعية والثقافية،
وأن تيسرها على الأخص وتكفل انتظامها لقراها رفعاً لمستواها، وكان عليها قبل أن تؤاخذهم
على إلقائهم لمخلفاتهم فى مجاريها المائية أن توفر بديلاً عنها ممثلاً فى خدماتها للصرف
الصحى التى هيأتها للمدن مجاناً دون قيد أو شرط، مع حرمان قراها منها، مما يخل بمساواة
المواطنين أمام القانون التى كفلتها المادة 40 من الدستور.
وحيث إن هذا النعى مردود أولاً : بأن تقديم الدولة لخدماتها الثقافية والاجتماعية والصحية
وفقاً لنص المادة 16 من الدستور، يقتضيها تدخلاً إيجابياً من خلال الاعتماد على مواردها
الذاتية التى تتيحها قدراتها، ليكون إشباعها لخدماتها هذه، متدرجاً وواقعاً فى حدود
إمكاناتها، خلافاً لموقفها من الحقوق الفردية السلبية – كالحق فى الحياة وفى الحرية
– التى يكفيها لصونها مجرد الامتناع عن التدخل فى نطاقها بما يقيد أو يعطل أصل الحق
فيها. ولئن جاز القول بأن الحقوق المدنية والسياسية، لا يمكن فصلها عن الحقوق الاقتصادية
والاجتماعية والثقافية سواء فى مجال توجهاتها أو بالنظر إلى عموم تطبيقها فيما بين
الدول، وأن النوع الأول من الحقوق يعتبر مدخلاً لثانيهما، وشرطاً أولياً لتحقيق وجوده
عملاً، إلا أن الفوارق بين هذين النوعين من الحقوق، تكمن فى أصل نشأتها وعلى ضوء مراميها،
ذلك أنه بينما تعتبر الحقوق المدنية والسياسية من الحقوق التى تمليها آدمية الإنسان
وجوهره – إلى حد وصفها بها، بخصائص بنى البشر أو بالحقوق الطبيعية الأسبق وجودا على
الجماعة التى ارتبط بها، فلا تتكامل شخصيته بدونها، ولا يوجد سوياً فى غيبتها، ولا
يحيا إلا بالقيم التى ترددها، ليملك بها إرادة الاختيار مشكلاً طرائق للحياة يرتضيها؛
فإن ضمان الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للإنسان، توخى دوماً تطوير أوضاع
البيئة التى تواجد فيها مستظلاً بها، ليعيد تكوين بنيانها، مستمداً رخاءه من الآفاق
الجديدة التى تقتحمها. وهى بحكم طبيعتها هذه، تتصل حلقاتها عبر الزمن، وعلى امتداد
مراحل لا تفرضها الأهواء، بل تقررها الدول على ضوء أولويتها، وبمراعاة مواردها القومية،
وبقدرها، ولئن جاز القول بأن الحقوق المدنية والسياسية تمهد فى الأعم الطريق إلى بناء
الهياكل الرئيسية للتنمية وفق الإرادة الحرة، إلا أن الحقوق الاجتماعية والثقافية والصحية
تناهض الفقر والجوع والمرض بوجه خاص، ويستحيل بالنظر إلى طبيعتها، ضمانها لكل الناس
فى آن واحد بل يكون تحقيقها فى بلد ما، مرتبطاً بأوضاعها وقدراتها ونطاق تقدمها، وعمق
مسئولياتها قبل مواطنيها، وإمكان النهوض بمتطلباتها، فلا تنفذ هذه الحقوق بالتالى نفاذاً
فورياً، بل تنمو وتتطور وفق تدابير تمتد زمناً، وتتصاعد تكلفتها بالنظر إلى مستوياتها
وتبعاً لنطاقها، ليكون تدخل الدولة إيجابياً لصونها متتابعاً، واقعاً فى أجزاء من إقليمها،
منصرفاً لبعض مدنها وقراها إذا أعوزتها قدراتها على بسط مظلتها على المواطنين جميعاً،
ذلك أن مسئولياتها عنها، مناطها إمكاناتها، وفى الحدود التى تتيحها، ومن خلال تعاون
دولى أحياناً، يؤيد ما تنص عليه المادة 26 من الاتفاقية الأمريكية لحقوق الإنسان (سان
خوسيه فى 22/ 11/ 1969) من أن الدول أطرافها تتعهد بأن تتخذ – داخلياً ومن خلال التعاون
الدولى – التدابير اللازمة وعلى الأخص الاقتصادية والتقنية منها، بقصد التوصل تدريجياً
عن طريق السلطة التشريعية أو غيرها من الوسائل الملائمة، إلى التحقيق الكامل للحقوق
التى تتضمنها المعاير الاقتصادية والاجتماعية والتربوية والعلمية والثقافية التى يشتمل
عليها ميثاق منظمة الدول الأمريكية معدلاً ببرتوكول بيونس أيرس.
وعملاً بالفقرة الأولى من المادة الثامنة من العهد الدولى للحقوق الاقتصادية والاجتماعية
والثقافية (26/11/1966) تتعهد كل الدول المعتبرة طرفاً فى هذا العدد – ومن بينها مصر
– بأن تتخذ بمفردها وكذلك بالتعاون مع غيرها من الدول الناحيتين الاقتصادية والتقنية،
التدابير الملائمة – وعلى الأخص التشريعية منها – التى يقتضيها التحقيق الكامل للحقوق
التى أقرها ذلك العهد، على أن يكون إيفاؤها متتابعاً، وبأقصى ما تسمح به مواردها.
ومردود ثانياً: بأن حظر إلقاء المخلفات الصلبة أو السائلة أو الغازية فى مجارى المياه
على كامل أطوالها ومسطحاتها ليس مطلقاً، بل يجوز الاستثناء منه فى أحوال بذاتها يقدرها
الوزير المختص، ووفق ترخيص لا يصدر إلا بعد معالجتها، توقياً لأضرارها، وبما يكفل لكل
حالة على حدة، التقيد بالمعايير والضوابط التى يتطلبها القانون. فإذا تبين عند تحليلها
– وبعد معالجتها – أنها لا تزال تؤثر فى نوعية المياه وصلاحية استخدامها لكل الأغراض،
وأن جهداً لم يبذل لضمان التقيد بالمعايير والضوابط اللازمة لصرفها، حق للجهة الإدارية
المختصة إلغاء الترخيص. ومن ثم يكون صدور الترخيص واستمراره، مرتبطا بأحوال بذاتها
تمثل ظرفاً قاهراً تقدر فيه الضرورة بقدرها، ووفق شروط وأوضاع لا يجوز التحلل منها،
فلا تكون المجارى المائية نهباً لمعتدين يلوثونها بمخلفاتهم دون عائق، بل يكون صرفها
فيها محدداً بمقاييس صارمة زمامها بيد الجهة الإدارية، وهو ما يعنى أن الترخيص الصادر
عنها، يعتبر بديلاً مؤقتاً عن مرافق الصرف الصحى عند تخلفها، وإلى أن يتم إحداثها.
ومردود ثالثاً: بأن مبدأ مساواة المواطنين أمام القانون، لا يعنى أن تعامل فئاتهم –
على تباين مراكزهم القانونية – معاملة قانونية متكافئة، ولا معارضة صور التمييز على
اختلافها، ذلك أن من بينها ما يستند إلى علاقة منطقية بين النصوص القانونية إلى تبناها
المشرع لتنظيم موضوع معين، والنتائج التى رتبها عليها، ليكون التمييز بالتالى موافقاً
لأحكام الدستور التى ينافيها انفصال هذه النصوص عن أهدافها، وتوخيها مصالح ضيقة لا
تجوز حمايتها؛ وكان الحظر المقرر بنص المادة 2 المطعون عليها، لا يتعلق ببعض المواطنين
دون بعض، ولا بمن يكون منهم مقيماً فى جهة بذاتها بجمهورية مصر العربية، بل ينطبق على
مدنها وقراها جميعاً، وترتيبا على واقعة بذاتها هى إلقاءهم لمخلفاتهم أو صرفها فى الموارد
المائية، ومقرراً بمقتضى قاعدة قانونية عامة مجردة لا تقيم فى مجال سريانها تمييزاً
بين المخاطبين بها، بل تنتظمهم جميعاً أحكامها التى ربطها المشرع بمصلحة عامة تتمثل
فى صون الأوضاع الأفضل لبيئتهم؛ فإن النعى عليه مخالفة المادة 40 من الدستور يكون منتحلاً.
وحيث إن المدعى ينعى على المادتين 2 و16 من القانون رقم 48 لسنة 1982 فى شأن حماية
نهر النيل والمجارى المائية من التلوث، تأثيمهما أفعالاً بذواتها استقرت بها قبل التجريم
مراكز قانونية لا تجوز تعديلها أو الإخلال بها، ليتمثل انعطافاً على الماضى على خلاف
نص المادة 187 من الدستور التى لا تجيز رجعية القوانين الجنائية، وتحتم سريانها بأثر
مباشر.
وحيث إن هذا النعى مردود، بأن الأفعال التى جرمها المشرع – واعتباراً من تاريخ نفاذ
القانون رقم 48 لسنة 1982 المشار إليه – هى إلقاء المخاطبين بأحكامه لمخالفاتهم فى المجارى المائية التى حددتها حصراً المادة الأولى من هذا القانون. وإذ كان المشرع قد
جرم بنص مادته السادسة عشرة الأفعال المنافية لهذا الحظر؛ وكان ارتكابها يمكن أن يكون
غير مقصور على لحظة زمنية بذاتها، فإن ما تم منها مشتملاً على عناصرها جميعاً قبل نفاذ
ذلك القانون، وظل مستمراً بعده، يعتبر جريمة معاقباً عليها وفقا لأحكامه.
وحيث إن ما ينعاه المدعى من أن قانون الرى والصرف الصادر بالقانون رقم 12 لسنة 1984،
قد ألغى الأحكام التى تضمنها القانون رقم 48 لسنة 1982 فى شأن حماية نهر النيل والمجارى المائية من التلوث، مردوداً أولاً: بأن لكل من هذين القانونين مجالاً يعمل فيه، ولا
يتصور أن يتعارضا. ذلك أنه بينما يتوخى أولهما تطوير نظم الرى والصرف ورفع كفاءتها
لضمان الانتفاع الأمثل بمصادر المياه وتوفير أكبر قدر ممكن منها بقصد زيادة الإنتاج
الزراعى الذى يحتل مكان الصدارة من الثورة القومية للبلاد؛ فإن ثانيهما يتغيا صون نهر
النيل وغيره من المجارى المائية التى حددها مما يلوثها. ومردود ثانياً بأن المسائل
الدستورية التى يستنهض الفصل فيها ولاية المحكمة الدستورية العليا، هى تلك التى تثير
تعارضاً بين القواعد الآمرة التى يشتمل عليها الدستور، وما دونها من القواعد القانونية.
ولا كذلك التعارض بين قاعدتين قانونيتين تتحدان فى مرتبتيهما.
وحيث إن نص المادتين 2، 16 من القانون رقم 48 لسنة 1982 آنف البيان – وفى الحدود التى بسطناها – لا يخالف أحكام الدستور من أوجه أخرى.
فلهذه الأسباب:
حكمت المحكمة برفض الدعوى، وبمصادرة الكفاله، وألزمت المدعى المصروفات ومبلغ مائة جنيه مقابل اتعاب المحاماة.
