الرئيسية الاقسام القوائم البحث

الطعن رقم 239 سنة 16 ق – جلسة 12 /03 /1946 

مجموعة القواعد القانونية التي قررتها محكمة النقض والإبرام في المواد الجنائية – وضعها محمود أحمد عمر باشكاتب محكمة النقض والإبرام
الجزء السابع (عن المدة من 5 نوفمبر سنة 1945 لغاية 13 يونيه سنة 1949) – صـ 94

جلسة 12 من مارس سنة 1946

برياسة سعادة سيد مصطفى باشا رئيس المحكمة وحضور حضرات: جندي عبد الملك بك وأحمد علي علوبة بك وأحمد فهمي إبراهيم بك ومحمد توفيق إبراهيم بك المستشارين.


القضية رقم 239 سنة 16 القضائية

أ – قاض. مناقشة بين رئيس المحكمة وبين محامي الخصوم حول مسألة من المسائل المعروضة. لا يصح عدِّه أنه رأي المحكمة المستقر في هذه المسألة. الرأي المستقر هو الذي يكون في الحكم بعد المداولة.
ب – نقد. نقد أعمال الحكومة. حق مقرر. توجيه اللوم إلى الملك أو مجرد إلقاء المسؤولية عليه ولو كان ذلك مسوقاً في قالب من الإجلال والإكبار. معاقب عليه. الملك لا يكون محل مساءلة أبداً. اشتراك الملك في الواقع في عمل من أعمال الحكومة. لا يؤثر في حق نقدها بشرط ألا يزج فيه باسم الملك.
1 – إن ما قد يدور في الجلسة في أثناء نظر الدعوى من مناقشة حول مسألة من المسائل المعروضة بين الخصوم أو محاميهم وبين رئيس المحكمة، حتى ولو كان الرئيس في كل أو بعض ما صدر عنه يتحدث باسم المحكمة كلها – ذلك لا يصح عدِّه أنه رأي المحكمة النهائي في وجهة نظر معينة، إذ المفروض أن الرأي النهائي إنما يكون في الحكم الذي لا يكون إلا بناءً على المداولة بعد الفراغ من سماع الدعوى والمرافعة فيها.
2 – لا شك في أن نقد أعمال الحكومة حق مقرر، إلا أنه لا يصح البتة أن يصل إلى حد توجيه اللوم إلى الملك في صدد العمل الذي استوجب النقد أو حتى إلى مجرد إلقاء مسؤولية عليه ولو كان هذا أو ذاك مسوقاً في قالب الإجلال والإكبار، بل ذلك معاقب عليه بالمادة 180 من قانون العقوبات، فإن زاد حتى تضمن عيباً كائناً ما كان في حق الذات الملكية كان واجباً العقاب عليه بالمادة 179. ذلك لأن الملك لا يكون محل مساءلة أبداً.
واشتراك الملك في حقيقة الواقع على أي وجه من الوجوه في أعمال الحكومة ليس من شأنه أن يؤثر في حرية النقد المقررة، بل هذه الحرية مكفولة على الدوام، ولكن على ألا يزج باسم الملك، فإن نقد أعمال الحكومة لا يتجه ولا يمكن أن يتجه إلا إلى المسؤولين عنها بحكم الدستور.


المحكمة

وحيث إن الطاعنين يقولان في طعنهما: أولاً – إن المحكمة أخلت بحقهما في الدفاع لأنها لم تمهل المحامي عنهما حتى يبدي دفاعه كاملاً، ثم بدا منها في الجلسة ما يشعر بأنها مقتنعة ببعض وجهات النظر قبل أن يستكمل عرضها مما اضطره إلى عدم الإفاضة فيها. وثانياً – أنها أهدرت بغير وجه دفاعهما فيما يتعلق بحكم الدستور فيمن يملك تعيين السفراء والوزراء المفوضين ولم تمحص قولهما في تفسير العبارات محل المحاكمة، ثم إنها دانتهما بجناية العيب في الذات الملكية، مع أن كل ما في المقالين موضوع الدعوى لا يعدو أن يكون نقداً مباحاً لأعمال الحكومة ولم يقصد به إلا الرد على ما جاء بجريدة "أخبار اليوم" في صدد تحبيذ تعيين عبد الفتاح عمرو باشا سفيراً لمصر في لندن والاعتراض على وزير الخارجية المسؤول عن ذلك التعيين، ولم يشر فيهما من قريب أو من بعيد إلى جلالة الملك. ولكن المحكمة مسخت عبارات المقالين وافترضت افتراضاً أن المقصود هو جلالة الملك دون أن تورد دليلاً على ذلك. وبعد أن ذكرت أن الملك هو الذي يعين الوزراء المفوضين والسفراء بأمر ملكي وأن عبارة "من أرسله" الواردة في مقال 8 يوليه سنة 1945 تساوي في معناها "من عيَّنه" – قالت إنه ليس للبحث الدستوري الذي أثاره الدفاع أي شأن في إثبات العيب أو نفيه، فأقفلت بذلك الطريق أمام الطاعنين مع أن البحث الدستوري يهم جداً في عدم ثبوت ركن الإسناد وبالتالي في عدم ثبوت التهمة.
وحيث إن محامي الطاعنين قد أبدى أوجه دفاعه عنهما وتناول فيما تناوله تحديد المسؤول بحكم الدستور عن تعيين السفراء والوزراء المفوضين، وخلص إلى القول بأن الوزارة هي وحدها المسؤولة عن ذلك. وليس في محضر الجلسة ما يفيد أنه قد بدا من المحكمة ما يشعر بأنها مقتنعة بوجهة نظر معينة في الدعوى، أو ما من شأنه خدع الدفاع في أية ناحية من نواحي المدافعة. ومع ذلك فإن ما قد يدور في الجلسة في أثناء نظر الدعوى من مناقشة حول مسألة من المسائل المعروضة بين الخصوم أو محاميهم وبين رئيس المحكمة، حتى ولو كان هذا يعبر في كل أو بعض ما صدر عنه عن رأي المحكمة كلها، لا يصح عدِّه وحده أنه رأي المحكمة النهائي في وجهة نظر معينة، فإن المفروض أن يكون ذلك في الحكم الذي لا يكون إلا بناءً على المداولة فيه بعد الفراغ من سماع الدعوى والمرافعة فيها. وإذن فالنعي على المحكمة بأنها أخلت بحقوق الدفاع لا يكون له محل.
وحيث إن الحكم المطعون فيه بعد أن بين الظروف التي لابست نشر المقالين موضوع المحاكمة، وذكر أنهما حلقة من سلسلة مقالات أنشأها الطاعن الأول ونشرت في الجريدة التي يرأس تحريرها الطاعن الثاني وتخللتها مساجلة بين الجريدة المذكورة وجريدة "أخبار اليوم" بصدد تعيين عبد الفتاح عمرو باشا في لندن – أورد العبارات البارزة في تلك المقالات، ثم استظهر منها ما عدَّه مكوناً لجناية العيب في الذات الملكية مبتدئاً بمقال 8 يوليه سنة 1945 فقال عنه: "إن العبارة المقتبسة من مقال 8 يوليه سنة 1945 في وصف التهمة والتي تنطوي على عيب موجه للذات الملكية هي ما يأتي: (إن عبد الفتاح باشا لم يقصر فيما أرسل من أجله ولكنه لا يصلح وليس هذا عيبه بل عيب من أرسله، وهذا الغير هو المسؤول عن هذا الموقف الغريب وعن هذه الإشكالات الدبلوماسية التي تحيط بمركز وزير مصر في لندن). ومدلول هذه العبارة واضح إذ أن ظاهرها ناطق بأن كاتبها يقصد منها أن ينسب لمن أرسل عبد الفتاح عمرو باشا إلى لندن أنه أتى عملاً معيباً بتعيينه وزيراً مفوضاً، وأنه مسؤول شخصياً عن موقف الوزير المفوض الذي هو في نظر الكاتب رجل غير صالح، ومسؤول أيضاً عن الإشكالات الدبلوماسية التي تحيط بمركزه في لندن. وإذا وجهت مثل هذه العبارات لحضرة صاحب الجلالة الملك فإنها تعد عيباً بلا مراء لاحتوائها على إسناد أمور عائبة تجرح المشاعر. وقد كان للمحكمة أن تكتفي بالقول بأن حضرة صاحب الجلالة الملك هو الذي يعين الوزراء المفوضين بأمر ملكي طبقاً لحقوقه الدستورية وأن جلالته قد عين عمرو باشا وزيراً مفوضاً بأمر ملكي صدر في 11 نوفمبر سنة 1944 وأن عبارة المتهم في مقاله بالطعن فيمن أرسله تثبت أنه قصد توجيه العيب للذات الملكية مباشرة إذ أن عبارة (من أرسله) تساوي في معناها (من عينه) وأن الذي عينه هو صاحب الحق في التعيين وفي إصدار الأمر الملكي به، وكان في هذا فصل النزاع في إثبات أن المتهم وجه العيب في حق الذات الملكية بالعبارات المتقدمة – قد كان يكفي هذا، غير أنها ترى في أسلوب المقال ومدلول عباراته ما يقطع أيضاً بأن الكاتب إنما قصد توجيه عبارات العيب للذات الملكية شخصياً دون غيرها. وإن المحكمة لا تريد أن تنهج في التفسير إلى اختيار قليل من الألفاظ مثل النفر والغير والأسياد وتستنطقها المعاني المقصودة بل ستعمد إلى أسلوب الكاتب وسياق عباراته بحثاً وراء ما يعنيه المتهم إذ أن هذا أقرب لقواعد اللغة العربية وأساليبها المختلفة التي منها الصريح والضمني والتي تؤدي إلى غرض واحد في التعبير عن المعاني وإيصالها للأذهان. وإن المعنى المستخلص من سياق هذا المقال هو أن الكاتب يريد أن يقول في أسلوب ملتو ما معناه أن جلالته أرسل عمرو باشا للندن لا ليقوم برعاية مصلحة الوطن بل ليرعى شؤون جلالته الشخصية وليهتم بمسائل أخرى، وأن عمرو باشا لا يصلح، وأن العيب ليس عيبه بل عيب من عيَّنه وزيراً مفوضاً، وأنه المسؤول عن الإشكالات الدبلوماسية التي أعقبت تعيينه – تلك المعاني مفهومة في يسر وبغير تكلف، ولا يمكن صرفها لشخص آخر غير جلالته. وإن المتهم الأول افتتح مقال 8 يوليه بطلب تعيين سفير مصري يقوم بخدمة القضية المصرية وقال إنه يستهدف هدفاً وطنياً مصرياً. ولو أنه قصر مقاله على هذا المعنى لكان لا تثريب عليه إلا أن قلمه حاد به عن سواء السبيل عندما ضمن مقاله رداً على مقال جريدة "أخبار اليوم" الذي عنوانه (عمرو باشا كله عيوب) الذي عددت فيه ما يقوم به عمرو باشا في لندن بعبارات تتلخص في أنه يخدم المصلحة العامة دون الخاصة ويعمل على تنقية سمعة الحكم المصري وإفهام الإنجليز بأن مصر ليست ضيعة لكل رئيس وزارة وإخبارهم بما يقوم به جلالة الملك الوطني من أعمال وطنية وتقديمه وطنه على عرشه وتعريفهم بخطيئة يوم 4 فبراير وتدخلهم في شؤون مصر. وقد قال المتهم المذكور في رده العبارة الآتية: (ولا يهمني أن يقال إن عبد الفتاح باشا عمرو يهاجم لأنه لم يشتر الفرو ولم يشتر زجاجة رائحة لأني لا أعرف هل اشترى أم لم يشتر وإن كانت الأسعار في لندن تغري بإرسال الهدايا جلباً للرضاء – ولا يهمني أن يقال إن عبد الفتاح عمرو باشا قصد إلى لندن لتنقية سمعة الحكم المصري وإنه يعمل جاهداً على أن يفهم الإنجليز أن مصر لن ترضى أن تكون ضيعة لكل رئيس وزارة يحكمها – لا يهمني هذا لأن عبد الفتاح عمرو باشا لا يدرك مع الأسف كل ما حمل من عبء فهو مظلوم هناك، ولو أنني كنت أرجو أن يقال إن مصر ليست ضيعة لأحد من المصريين، أليس كذلك أيها الدب الأعمى! نِمْ أيها الدب الأعمى لأنك أفصحت عما يفعل عمرو باشا في لندن وعما يقوم من أجله الطعام والقهوة التركية المثلى. لا يهمني أن يقال إن عبد الفتاح عمرو باشا أجهد نفسه ليقنع الإنجليز بخطيئة يوم 4 فبراير). وهذه العبارات أبلغ في أداء المعنى من أي تفسير فهي مع إغفال ذكر اسم جلالة الملك تصريحاً فإن معانيها تشير لجلالته دون غيره ولا تنصرف كما زعم المتهم إلى أن المقصود بها هو رئيس الوزارة أو الوزير المسؤول، لأن الأعمال التي ذكرتها أخبار اليوم ورددها المتهم لا تتصل بالوزارة بل تتصل بمصر وبجلالة الملك شخصياً، فإذا جاء الكاتب وسخر من محرر أخبار اليوم، ونعته بالدب الأعمى وهي قصة يعرفها الأطفال ملخصها أن دباً أصاب سيده وهو يذود عنه الذباب، ومغزاها معروف، وبنى سخريته منه على أنه أفصح عن الأعمال التي يقوم بها عمرو باشا في لندن وعن السبب الذي يقدم من أجله الطعام الجيد والقهوة التركية المثلى، ثم قال رداً عليه: (إنه كان يتمنى أن يقول إن مصر ليست ضيعة لأحد من المصريين)، وذلك في مقام الرد على عبارة: (أنه يفهم الإنجليز أن مصر ليست ضيعة لكل رئيس وزارة)، وكانت كل المعاني المتقدمة دالة على أن المقصود بعبارات الكاتب ليس وزيراً ولا فرداً عادياً بل هو جلالة الملك ذاته لأن عبارته تقوم على الموازنة بين ما يعمله الوزير المفوض من أعمال لخدمة جلالة الملك وبين ما يطالب به الكاتب الوزير المفوض بأن يقوم به لمصلحة القضية المصرية. وعلى ضوء تفسير تلك العبارات يتبين بوضوح أن المتهم قصد بعبارة (فأسياد المسخر الأبله… يعرفون عن البلاغ سوابقه في الهجوم) أيضاً جلالة الملك، وأساليب اللغة تجيز مخاطبة المفرد بصيغة الجمع، وبخاصة فإن عبارة سابقة البلاغ في الهجوم واقعة ذكرها نفس المتهم في التحقيق بأن المراد منها موقف البلاغ في هجومه على حكومة الوفد سنة 1937 وانتصاره للسراي. ومن ثم يبين من تفسير العبارة التي تركز فيها العيب ومن مرامي المقال بحسب التفسير المتقدم أن المتهم قصد توجيه العيب لجلالة الملك شخصياً، وأن شخص جلالته تعين من مرامي عبارات ألفاظ المقال، ولا تأخذ المحكمة بالتفسير الذي ذهب إليه الدفاع عن المتهم من أن الوزارة هي المقصودة، لأن أسلوب المقال يأبى القول به. وقد اعترف المتهم الأول بأنه ألَّف المقال المنشور بالبلاغ في 8 يوليه سنة 1945 ونشره بجريدته ولكنه أنكر التهمة وقال إنه لا يقصد توجيه العيب لجلالة الملك وإنه مخلص لجلالته إخلاص كل مصري وذكر في التحقيق أنه يقصد بعباراته الأحزاب ووزير الخارجية المسؤول دستورياً. وقال الدفاع عنه بصدد هذا الشق من التهمة إن المقال وليد مساجلة صحفية وإن المقصود من عباراته حض الحكومة على تعيين سفير صالح يخدم مصر ومطالبها وإنه خال من توجيه العيب أو اللوم لجلالة الملك بل هو موجه للوزير المسؤول دستورياً وفقاً لقواعد الدستور. وهذا الدفاع مردود عليه بما سبق بيناه من أدلة تثبت أن المقال يتضمن عبارات مدلولها توجيه العيب للذات الملكية وأن مرامي عبارات المقال تعين أن جلالته هو المقصود بالذات دون الوزارة أو وزير الخارجية. ومتى كان العيب موجهاً لذاته المصونة مباشرة فلا يهم أن يمس هذا العيب أعمال جلالته الخاصة أو العامة إذ أن جلالته ليس له إلا شخصية واحدة، وليس للبحث الدستوري الذي أثير أي شأن في التدليل على إثبات العيب أو نفيه، لأن الثبوت أمر متعلق بوقائع الدعوى، وأما كون المقال وليد مساجلة صحفية فلا يتنافى مع تضمنه عبارات العيب التي تثبت أن المتهم قصد بها توجيهها لجلالته. ومن ثم لا تعول المحكمة على هذا الدفاع لأنه لا ينفي التهمة التي قدمنا الأدلة على ثبوتها. وإنه يخلص مما تقدم أنه قد ثبت أن المتهم الأول قد أسند في مقال 8 يوليه سنة 1945 لجلالة الملك العبارات الواردة بالشق الأول من تقرير الاتهام والتي بينا مدلولها، وهو أنه نسب لجلالة الملك أنه أتى عملاً معيباً بتعيينه عمرو باشا وزيراً مفوضاً وهو لا يصلح، وأنه مسؤول عن الإشكالات الدبلوماسية التي تحيط بمركزه في لندن، وهي عبارات من شأنها المساس بجلالة الملك وهذا يكفي لتوافر ركن العيب…. إلخ". ثم انتقل إلى مقال 11 أغسطس سنة 1945 واقتبس منه العبارات الآتية: "قيل إن النية لم تكن متجهة إلى تعيين سعادة عبد الفتاح عمرو باشا سفيراً لمصر في لندن أو لم تكن تسير بالسرعة التي سارت بها الآن لو لم أكتب مقالاً عنه ولو لم يشاركني زملاء آخرون آرائي فبعد هذه المقالات أو على أثرها بدأ التصميم وأسرعت الأوراق وقيل إن الحكومة المصرية أرسلت اسمه إلى الحكومة الإنجليزية قبل أن يعود معالي الدكتور عبد الحميد بدوي باشا، وقيل أخيراً إنه اعترض على هذا الاختيار وعلى التسرع فيه… قيل كل هذا والقسم الأول منه عجيب غاية العجب فالمعاندة في أمثال هذه المسائل الخطيرة المتصلة بأهم مناصب الدولة تدل على تفكير صغير وعلى أن أمور الدولة لا تساس بالاتزان الواجب بل تساس بعقول دكتاتورية ولا تستمع إلى رأي ولا تصغي إلى نصح ولا تعمل بتحذير بل على العكس تعاند وتكابر. ولقد كنت أريد أن أوجه الحديث عن الضرر في ترشيح عمرو باشا إلى معالي وزير الخارجية ولكن التعيين تم والاختيار وقع وأنا أشد ما أكون أسفاً لهذا الاختيار السيئ الذي لم يصادف أهله". واختتم مقاله بقوله: "وبعد فإنني أعرف الآن أن عبد الفتاح باشا عمرو قد نجح في احتلال منصب السفير ولكني أؤكد لمعالي وزير الخارجية أنه خسر كثيراً برضوخه للرغبة البادية في تعيينه وأن مصر ستخسر أكثر ولكن أي شيء بل أي اختيار يسير في مصر سيره المنطقي أو الوطني العادي". وقال عنها: "إن تلك العبارات تدل على أن المتهم عندما علم أن عبد الفتاح عمرو باشا قد قبلت الحكومة البريطانية ترشيحه أنشأ المقال وجعل عنوانه (اختيار سيئ لسفارة مصر في لندن)، وذكر ما تفسيره أنه سمع أن عبد الفتاح باشا عين سفيراً بسبب مقالاته التي حررها بشأن سفارة مصر في لندن ومنها المقال المؤرخ 8 يوليه سنة 1945. وعلق على هذه العبارة بأن المعاندة في مثل هذه الأمور تدل على تفكير صغير، وأن أمور الدولة لا تساس بالاتزان اللازم بل تساس بعقول دكتاتورية لا تستمع لنصح أو تحذير بل تعاند وتكابر، وأنه يأسف لأن التعيين تم أو كاد وأن وزير الخارجية خسر برضوخه للرغبة البادية في تعيين عمرو باشا سفيراً – ذلك هو مجمل المعنى المستفاد من عبارات المقال. ويبين من فحص عبارات هذا المقال أن المتهمين قصدا بتلك العبارة توجيه العيب في حق الذات الملكية للأسباب الآتية: (أولاً) أن الاختيار الذي وصفناه بأنه سيئ مقصود به اختيار جلالته للسفير إذ ذكرا في المقال أن الاختيار قد وقع والتعيين قد تم ولا يمكن نسبة إتمام التعيين أو الاختيار إلا لجلالته، لأن جلالته صاحب الرأي النهائي في هذا التعيين، وليس وزير الخارجية. ويؤيد هذا أن المتهمين علما قبل نشر المقال المذكور أن الحكومة البريطانية قبلت ترشيح عمرو باشا ليكون سفيراً، وهذا كاف في أن يفهما ويفهم القراء أن جلالة الملك وافق على هذا الاختيار لأن البداهة تقتضي أن لا يتقدم وزير الخارجية للحكومة الإنجليزية باسم المرشح إلا بعد موافقة جلالته وإلا عرض تصرفه للإهدار إذا لم يوافق جلالته على إصدار الأمر الملكي بالتعيين النهائي وكان ما يعمله الوزير عبثاً ليس بسائغ في أعمال الدولة. ولا يقلل من شأن هذا التفسير عدم صدور أمر ملكي بالتعيين إلا بعد نشر المقال إذ أن المتهمين في مقالهما ذكرا أن عبد الفتاح باشا قد نجح في تعيينه سفيراً. (ثانياً) صدور الأمر الملكي بتعيين عمرو باشا قرينة تدل على أن جلالة الملك أجاز اختياره وترشيحه. (ثالثاً) قول المتهم بأن وزير الخارجية رضخ للرغبة البادية في تعيينه لا يعني إلا الرضوخ لجلالة الملك. ولا يصح القول مع سياق المقال بأنه رضخ لرئيس الوزارة كما جاء في دفاع المتهمين لأن السياق يقتضي غير ذلك. وإن ما تقدم كان في إثبات أن المتهمين قصدا بالعبارات المتقدمة العيب في الذات الملكية إذ أسندا لجلالته المعاندة وإساءة الاختيار وإدارة سياسة البلاد بطريق دكتاتوري. ويؤيد هذا ما فهمه المتهمان من أنه لم يكن سيعين لولا المقالات التي كتبت من قبل. على أن مرامي تلك العبارات تعين أن جلالته مقصود بها دون غيره. وإن الدفاع عن المتهمين نفى توجيه تلك العبارات لجلالة الملك وقال إن ترشيح السفراء هو من عمل وزراء الخارجية دون جلالته، وإن المقصود هو الوزير، وإنها لا تحوي عيباً أو لوماً. وإن المحكمة ترى أن البحث الدستوري بعيد عن موضوع قضية العيب إذ أن المطلوب في هذه الدعوى هو معرفة هل قصد المتهمان العيب في جلالة الملك أم لا وقد بينا أن عبارات المقال ترمي كلها إلى التعريض بجلالته بعبارة (اختيار سيئ) و(سياسة البلاد تساس بعقول دكتاتورية) و(المعاندة في التعيين) لسابقة التعريض بجلالته في مقال سابق والتي يفسرها أيضاً عبارته التي أشار فيها إلى أن وزير الخارجية رضخ لتلك الرغبة البادية في تعيينه – وكل هذه العبارات تدل على أنهما يقصدان جلالته شخصياً إذ أنه – كما قدمنا – لا يتنافى عدم صدور الأمر الملكي مع اختيار جلالته له قبل ذلك ومن ثم يكون الاستتار وراء البحث الدستوري غير مجدٍ في دفع تهمة العيب. وإنه ثبت مما تقدم ومن الاطلاع على مقال 11 أغسطس سنة 1945 أن المتهمين أسندا لجلالة الملك سوء الاختيار والمعاندة في أمور الدولة وسياسة البلاد بعقول دكتاتورية وهي عبارات من شأنها المساس بالذات الملكية وهي كافية لتوفر ركن العيب. وقد دللنا فيما تقدم من الأسباب على أن تلك العبارات وباقي عبارات المقال تحدد أن المتهمين قصدا توجيه العيب للذات الملكية، كما أنه يبين من عبارات المقال ومراميها أنهما قصدا الذات الملكية مباشرة بدليل أنهما ربطا بين عبارة المعاندة والمكابرة وبين المقال السابق المنشور في البلاغ في 8 يوليه سنة 1945 وغيره بقولهما إنه لم يكن ليتم تعيينه سفيراً لولا كتابتهما، وبدليل أنهما أيضاً اختتما المقال الثاني ببيان أن عمرو باشا نجح في تولي منصب السفير ولاما وزير الخارجية لرضوخه للرغبة البادية في تعيينه – وكل ذلك قاطع في الدلالة على أن العيب موجه للذات الملكية مباشرة. ومن ثم يتوافر ركن التوجيه المباشر الذي تشترطه جريمة العيب في الذات الملكية".
وحيث إنه يبين ما أورده الحكم على الوجه المتقدم أن المحكمة تعرضت لدفاع الطاعنين وفندته استناداً إلى الأدلة القائمة في الدعوى، ثم استخلصت من المقدمات التي أوردتها أن ما جاء بالمقالين من عبارات العيب التي ذكرتها إنما قصد به في الواقع وحقيقة الأمر الذات الملكية، وذلك بغض النظر عن حكم الدستور في صدد السلطة التي تملك تعيين السفراء والوزراء المفوضين. ومتى كان ذلك كذلك، وكان سياق المقالين ومدلول عباراتهما والظروف التي لابست نشرهما تبرر النظر الذي انتهت إليه المحكمة، فإن ما ينعاه الطاعنان على الحكم في هذا الشأن لا يكون له محل أيضاً.
وحيث إن ما يقوله الطاعنان من أن قصدهما لم يكن إلا نقد عمل من أعمال الحكومة لا يجديهما، لأن الحق في نقد أعمال الحكومة وإن كان مقرراً لا شك في ذلك إلا أنه لا يمكن بمقتضى القانون أن يصل إلى حد توجيه اللوم إلى الملك في صدد العمل الذي استوجب النقد أو حتى إلى مجرد إلقاء مسؤوليته عليه، ولو كان هذا أو ذاك مسوقاً في قالب من الإجلال والإكبار، بل ذلك معاقب عليه على كل حال بالمادة 180 من قانون العقوبات، وإذا زاد حتى تضمن عيباً كائناً ما كان في حق الذات الملكية، فإن العقاب عليه بمقتضى المادة 179 يكون واجباً. وذلك لأن الملك بحكم أنه هو رئيس الدولة الأعلى وذاته مصونة لا تمس ويتولى سلطته بواسطة وزرائه الذين هم المسؤولون بالتضامن عن السياسة العامة للدولة، وكل منهم مسؤول عن أعمال وزارته لا تخليهم بحال أوامره، شفهية كانت أو كتابية – بحكم ذلك، وهو حكم الدستور، لا يتصور أبداً أن يكون محل مساءلة من أي نوع كان عن أي عمل كان من أي قبيل كان.
هذا، واشتراك الملك في حقيقة الواقع على أي وجه من الوجوه في أعمال الحكومة ليس من شأنه أن يؤثر في حرية النقد المقررة، بل هذه الحرية مكفولة على الدوام ما دام الملك لا يزج باسمه ولا يقحم. فإن نقد أعمال الحكومة لا يتجه ولا يمكن أن يتجه إلا إلى المسؤولين عنها بحكم الدستور، وتوجيهه إلى الملك الذي هو فوق المسؤولية إنما يكون بتوجيهه نحوه بالذات، تصريحاً أو تلميحاً، من قريب أو من بعيد. ومتى كان الأمر كذلك، وكان الحكم المطعون فيه قد أثبت أن الطاعنين في المقالين إنما قصدا التعريض بالملك بما يعتبر عيباً في ذاته، فإن عقابهما بجناية العيب يكون في محله. ولا يشفع لهما ما يتذرعان به من أنهما كانا ينقدان عملاً حكومياً.

يمكنك مشاركة المقالة من خلال تلك الايقونات