الرئيسية الاقسام القوائم البحث

الطعن رقم 991 سنة 10 ق – جلسة 13 /05 /1940 

مجموعة القواعد القانونية التي قررتها محكمة النقض والإبرام في المواد الجنائية
وضعها محمود أحمد عمر باشكاتب محكمة النقض والإبرام
الجزء الخامس (عن المدة من 6 نوفمبر سنة 1939 لغاية 26 أكتوبر سنة 1942) – صـ 198

جلسة 13 مايو سنة 1940

برياسة سعادة مصطفى محمد باشا رئيس المحكمة وبحضور حضرات: عبد الفتاح السيد بك ومحمد كامل الرشيدي بك وسيد مصطفى بك وحسن زكي محمد بك المستشارين.


القضية رقم 991 سنة 10 القضائية

( أ ) نظام الحكومة المقرّر. معناه. المادة 174 من قانون العقوبات. الغرض منها. حماية الدستور والنظم المقرّرة فيه لحكم. الطعن في هيئة الوزارة القائمة. لا يدخل في نطاق هذه المادة. جناية التحريض على كراهة نظام الحكومة المقرّر. عنصراها المادي والأدبي.
(ب) عقوبة. إدانة المتهم في جناية وفي جرائم أخرى. توقيع العقوبات المقرّرة للجناية وحدها وفقاً للمادة 32 للارتباط. نقض الحكم بالنسبة للجناية وحدها. اعتبار هذه العقوبات محكوماً بها عن الجرائم الأخرى. متى يجوز ذلك؟ عقوبة غير مقرّرة لهذه الجرائم أو مقرّرة ولكن تحرّجت المحكمة في توقيعها بسبب وجود الجناية. وجوب استبعادها.
1 – إن الشارع إذ نص في الفقرة الأولى من المادة 174 من قانون العقوبات على عقاب من يحرّض بطريقة من طرق العلانية على "قلب نظام الحكومة المقرّر في القطر المصري أو على كراهته أو الازدراء به" إنما عنى الطعن الذي يكون المقصود به تعريض الدستور، وكل ما كان الدستور مصدراً له من النظم الأساسية المختلفة المرسومة فيه لضبط شئون الحكم في البلاد وتحديدها وإدارتها، إلى ما أراد حمايتها منه وهو الحض على قلبها أو كراهيتها أو الازدراء بها. ولم يعنِ الطعن في حكومة بعينها أو وزارة بذاتها، أو حكام بأشخاصهم، إذ أن القانون قد قرّر لحماية هؤلاء من الطعن فيهم عقوبات خاصة في نصوص خاصة لا تنطبق على النظم الدستورية التي هي باعتبارها ذوات معنوية بحتاً تحتاج لحمايتها إلى نص خاص بها هو الذي وردت به المادة المذكورة، كما هو مدلول عليه بمعناها لغة وبمفهومها فقهاً وبما هو مستفاد من مذكرتها الإيضاحية في جملتها. وإذا كان القانون لا يتطلب في عبارات التحريض على كراهة نظام الحكومة أن تكون على صورة معينة لا تقع الجريمة إلا بها فإنه لا نزاع في أنه يجب على كل حال – لكي يتوافر في الجريمة عنصراها المادي والأدبي- أن تكون العبارات من شأنها أن تؤدّي إلى ما نهى القانون عنه من ذلك التحريض، وأن تتوجه نية من صدرت عنه إلى تحقيق ذلك من ورائها. ثم إنه إذا جاز أن يكون الطعن المعنى في هذه المادة موجهاً في الظاهر إلى هيئة معينة أو أشخاص معينين، ومسدّداً في الواقع إلى ذات النظام للنيل منه إلا أنه يشترط للقول بذلك أن يكون هذا مستفاداً من العبارات في ذاتها على حسب المقصود منها.
2 – إذا أدين متهم في جناية وفي جرائم أخرى، ووقعت عليه العقوبات المقررة للجناية فقط وفقاً للمادة 32 من قانون العقوبات لارتباط الجناية بالجرائم الأخرى، فإنه ما دامت الجرائم الأخرى قد ثبت أيضاً إدانة المتهم فيها يجب عند نقض الحكم في الجناية وحدها اعتبار تلك العقوبات محكوماً بها في الجرائم الأخرى متى كانت داخلة في نطاق العقوبات المقررة في القانون لهذه الجرائم. أما إذا كان منها ما ليس داخلاً فإنه يجب نقض الحكم بالنسبة له تبعاً للجناية. وكذلك الحال بالنسبة لكل عقوبة يظهر من الحكم أن المحكمة كانت وقت توقيعها في حرج بسبب وجود الجناية.


الوقائع

اتهمت النيابة العامة هذا الطاعن بأنه في المدّة من 12 إلى 21 أغسطس سنة 1939 بمدينة القاهرة محافظة مصر، حالة كونه رئيساً لتحرير جريدة الوفد المصري، حرض علناً على كراهية نظام الحكم المقرّر بأن قام بحملة صحفية دأب فيها على إهانة الوزارة الحاضرة وسب وقذف حضرة صاحب المقام الرفيع علي ماهر باشا بسبب أدائه ما كلف به من تشكيل الوزارة الحاضرة وبسبب أدائه أعمال وظيفته فيها، ونشر الأخبار الكاذبة الضارة بالمصلحة العامة مع سوء القصد رامياً بهذه الحملة إلى تحريض الشعب على بغض الحكومة والازدراء بها ووضع العثرات لإعاقتها عن إنجاز الأعمال المنوطة بها في اختصاصاتها الأساسية. فنشر في العدد رقم 396 الصادر في 13 أغسطس سنة 1939 مقالاً بعنوان "استقالة محمد محمود باشا أو إقالته ثم ترشيح على ماهر باشا لتأليف الوزارة" سب فيها وقذف علناً رفعة علي ماهر باشا بسبب تكليفه بتأليف الوزارة إذ رماه بأنه عدوّ للأمة مهيأ لمحاربتها وأنه أداة للكيد لها. كما أسند إليه كذباً ومع سوء القصد واقعة توجب احتقاره عند أهل وطنه وهي أنه عرض أسماء المرشحين للاشتراك في وزارته على السفارة البريطانية، وذلك في عبارات جاءت في المقال منها هذه العبارة "وقد قلنا في الأسبوع الماضي إن اليد الإنكليزية تبدو من وراء هذا الترقيع، ونقول اليوم إن هذه بلا شك حلقة من سلسلة ما تم في لندن، والآن ها هو ذا يرشح للوزارة القائمة فيتحقق بذلك كل ما قلناه من قبل، وتستقبل الأمة فيه عدواً جديداً لمحاربتها وأداة من الأدوات الميسرة للكيد لها… … وقد تأكد لدينا ما قبل أمس في كثير من الدوائر السياسية وهو أن أسماء أعضاء الوزارة الجديدة والمرشحين لها مرسلة للسفارة البريطانية وليس هذا بعجيب… ويكفي أن تكون أوّل خطوة في مرحلة هذا الحكم الجديد هي هذه الخطوة الماهرية ليعرف الناس أي نوع من الحكم سيجدون غداً وأي سياسة قد بينت لمحاربتهم في مبادئهم ومقاومة مشيئتهم".
ونشر في العدد رقم 397 الصادر في 13 أغسطس سنة 1939 بالصفحة الأولى مقالاً من تأليفه عنوانه "علي ماهر عدوّ الشعب رقم 1 – إصبع الإنجليز في ترشيحه" كرر فيه قذف رفعة رئيس الوزارة بنسبة الواقعة المتقدّمة الذكر إليه، وسبه إذ رماه بأنه عدوّ الشعب الأوّل، وأنه هو أصل البلوى، وأنه الأداء الطيعة في يد الساسة التي تزيد التنكيل بالشعب ونشر المجاعة بين الفلاحين وجر الأمة إلى كل صور الخراب وذلك في عبارات منها هذه: "لم يسجل التاريخ السياسي لعلي ماهر باشا إلا العمل على مناهضة الأمة والتدبير ضدّ مشيئتها وإرادتها كلما سنحت له فرصة في الخفاء حتى لا يكاد انقلاب واحد من الانقلابات الرجعية يخلو من إصبع هذا الرجل الذي تخصص للكيد لهذه الأمة. فقيامه على رأس وزارة الآن لا يمكن إلا أن يكون دليلاً من أدلة استهتار الإنجليز بالشعب المصري وحقوقه وكرامته إذ هم المرجع لترشيحه، وإلا فليقل لنا ماهر باشا كيف استباح لنفسه أن يبعث ببرنامج وزارته وأسماء من يرشحهم للاشتراك معه في الوزارة إلى السفارة البريطانية. علي ماهر باشا إذن هو أصل البلوى التي حلت بالبلاد وهو الرجل الذي يصلح لأن يكون أداة طيعة في يد السياسة الإنجليزية التي تريد التنكيل بالشعب المصري وتريد أن تنشر المجاعة بين الفلاحين وأن يجرّ على هذه الأمة الخراب السياسي في سبيل أن تسدّ ما بقي لها من مطامع وأن تعتصر البقية الباقية من دم هذا الشعب بعد أن اعتصرت معظمه على أيدي وزارة الحكم الصالح.
ونشر في العدد رقم 398 الصادر في 14 أغسطس سنة 1939 صورة تمثل "جون بول" رمز بريطانيا يهم بلبس قناع على صورة رفعة على ماهر باشا قاصداً بذلك سب رفعته بأنه إنما يمثل المصالح الأجنبية لا المصالح الوطنية.
ونشر في العدد رقم 401 الصادر في 17 أغسطس سنة 1939 مقالاً من تأليفه تحت عنوان "تحليل نفساني – عودة الرجل الذي وراء الستار" سب فيه رفعة علي ماهر باشا بسبب قيامه بتشكيل الوزارة إذ رماه في عبارات صريحة كثيرة في المقال بأنه يلهو بمستقبل الأمة، وأنه خلق للهدم، كما رماه بالدس والتآمر والتخريب وبأنه لا يؤتمن على الاستقلال والدستور.
ونشر في العدد رقم 402 الصادر في 18 أغسطس سنة 1939 صورة رمزية تمثل رفعة علي ماهر باشا نقذف به قدم منتعلة خارج باب الوزارة قاصداً بذلك سب رفعته وتحقيره.
ونشر في العدد رقم 403 الصادر في 19 أغسطس سنة 1939 صورة رمزية من تأليفه أهان فيها الوزارة الحاضرة حيث مثلها على هيئة باقة يقدّمها رئيس الحكومة إلى سيدة رمز بها لمصر وقد أشاحت بوجهها قابضة على أنفها بيدها، وكتب تحت الصورة "ريحتها" (الوزارة) باينة قوي وعارفها من زمان".
ونشر في العدد رقم 403 الصفحة السادسة بعنوان: "جنين سقط/ مقالاً أهان فيه الوزارة الحاضرة إذ وصفها بأنها كالجنين السقط أي غير صالحة للحياة ولا قابلة لها، كما رماها بأنها خالية من الكفاءات أو تكاد وبأنها وزارة يقوم شطرها المستقل على تلك الصورة من الخلو من الكفاءات بينما يقوم شطرها الحزبي على عنصر الخيانة والتهالك على الوظيفة والتهافت على المناصب. وذلك في عبارات صريحة كثيرة وردت متفرّقة في المقال.
ونشر مع سوق القصد في العدد رقم 404 الصادر في 20 أغسطس سنة 1939 خبراً كاذباً ضاراً بالمصلحة العامة عنوانه "الوزارة والجيش" فحواه أن جميع الضباط الكبار الذين يعارضون في تعيين عزيز علي المصري باشا سيحالون على المعاش.
ونشر في العدد رقم 405 الصادر في 21 أغسطس سنة 1939 مقالاً بعنوان "على حساب مصر – مؤامرة الشقيقين في سبيل الحكم" أهان فيه الوزارة الحاضرة وسب رفعة رئيسها بسبب أعمال وظيفته إذ عرّض بالوزارة مدًعياً أنها ثمرة مؤامرة وكيد لم يراعَ فيها لا الأمة ولا الدستور ولا الحق ولا الخلق. وذلك بعبارات منها هذه "أرخي الستار على الفصل الأخير ولا شك أنه لن يكون أخر الفصول في مأساة المؤامرة الماهرية، أي مؤامرة الشقيقين، في سبيل الحكم والسلطان شاءت الأمة أو لم تشأ، رضي الدستور والحق والخلق أو لم ترضَ، كلها سيان. أرخي الستار على الفصل الأخير من فصول المأساة، وقفز صاحب المقام الرفيع ماهر باشا إلى المنصب المنشود بعد طول الكد والكيد، متخطياً كل قيد من القيود، متجاوزاً كل حدّ من الحدود، فلا دستور ولا برلمان، ولا أكثرية ولا أقلية، ولا حزب ولا أحزاب، وإنما المهم أنه وصل الحكم وألف الوزارة واندفع من اليوم الأوّل يهاجم الإدارة الحكومية هجوماً لا ضابط له… … والآن قد خرج ماهر باشا على الأمة من مكمنه وبرز إلى مقدّمة الصفوف للمرة الأولى في حياته الحافلة بضروب الحرب الخفية وصنوف التنكيل بالأمة ودستورها وأخلاقها من وراء ستار".
ونشر في نفس العدد مقالاً بالصفحة السادسة بعنوان "بوادر تسليم البضاعة – تقويض المعاهدة الإنجليزية المصرية – العدول رسمياً على بناء الثكنات" سب فيه الوزارة الحاضرة ورفعة علي ماهر باشا بأن رماهما بالخيانة والتفريط وتأييد الاحتلال والتواطؤ مع الإنجليز، وأسند إليهم أنهم عدلوا عن بناء الثكنات فقبلوا دوام الاحتلال الأجنبي جزاء توليهم الحكم، وأن دعوى الرغبة في الاقتصاد والإصلاح لم تكن إلا تدجيلاً وستراً لجريمتهم. وذلك في عبارات وردت بالمقال منها "هذه هي الهدية الأولى من كف علي ماهر باشا إلى يد الإنجليز في اليوم الثالث من بداية حكمه، وكأنما كان رفعة الرئيس الجليل مصطفى النحاس باشا ليلة أمس يتحدّث بلسان الشعب حين وصف علي ماهر باشا في خطبته بأنه "قد اطمأن إلى أن حرابهم تحميه ورجالهم يؤيدونه وأنه أصبح عندهم اليوم رجل الساعة المطلوب لإتمام تسليم البضاعة. ماذا تصبح المعاهدة بعد هذا الإهداء الذي يهديه علي ماهر باشا لأساتذته الأعزاء؟ فإن إقامة إلغاء الثكنات على دعوى الاقتصاد للإصلاح الداخلي تدجيل باسم الاقتصاد وتحايل مكشوف بدعوى الإصلاح الداخلي، فإن المصريين لا يضنون بأي شيء… إلخ. لقد فعلها علي ماهر باشا ولكنه سيجد جزاءها وسيعرف أنه اقترف في حق البلاد أسوأ الخيانات السياسية". وقد طبعت الأعداد المذكورة ووزعت على الجمهور في تاريخ صدورها. وطلبت من حضرة قاضي الإحالة إحالته على محكمة الجنايات لمحاكمته بالمواد 171 و174/ 1 و184 و185 و188 و195 و198 و200 و302 و303/ 3 و307 و32 من قانون العقوبات، فقرّر حضرته بتاريخ 19 سبتمبر سنة 1939 إحالته على محكمة جنايات مصر لمحاكمته بمقتضى المواد سالفة الذكر. ومحكمة جنايات مصر سمعت هذه الدعوى ثم قضت فيها حضورياً بتاريخ 7 ديسمبر سنة 1939 عملاً بالمواد 171 و174/ 1 و184 و185 و188 و195 و198 و200 و302 و303/ 3 و307 عقوبات والمادة 32 عقوبات أيضاً وكذلك المادة 17 عقوبات: (أوّلاً) بمعاقبة المتهم بالحبس مع الشغل مدّة ستة أشهر وبتغريمه خمسين جنيهاً.
(وثانياً) بتعطيل جريدة الوفد المصري اليومية لمدة شهر واحد يبدأ من اليوم.
(وثالثاً) بنشر الحكم في جريدة الأهرام اليومية على نفقة المحكوم عليه.
فطعن المحكوم عليه في هذا الحكم بطريق النقض إلخ.


المحكمة

وحيث إن الطاعن بنى طعنه على أن الحكم المطعون فيه أخطأ في تطبيق القانون على الواقعة التي أثبتها إذ اعتبر ما تضمنته المقالات موضوع المحاكمة جناية منطبقة على المادة 174 فقرة أولى من قانون العقوبات مع أنه سبق لمحكمة النقض والإبرام أن فسرت هذه المادة ورسمت حدودها فقالت "إن المعنى اللغوي والعرف الفقهي العام وعرف الشارع المصري الخاص كل أولئك متضافرة على وجوب صرف معنى عبارة نظام الحكومة المقرّر بالقطر المصري إلى ما يشمل تفاصيل النظام الحكومي بحسب ما هي عليه في الدستور القائم الذي هو الموطن الوحيد لتقريرها". ثم قالت "إن الطعن في الدستور والتحريض على عدم طاعته هو إذن طعن على نظام الحكم في صورته التي قرّرها ذلك الدستور وتحريض على كراهيته". ثم قالت كذلك إن "الحكومة في ماهيتها القانونية هي السيادة في مظهرها العملي أي السيادة فعالة مجرية ما تقتضيه طبيعتها من تحقيق سلطانها في الناس، فكل الضوابط والأحكام الكلية التي تحدّد سير السيادة في تحقيق سلطانها في الناس هي التي يتكوّن منها في مجموعها معنى الحكومة. وتلك الضوابط والأحكام متغيرة متقلبة على صور ووجوه شتى، فكلما تحدّدت في بلد على أي وجه من الوجوه وبأي كيفية من الكيفيات كانت الحكومة المقرّرة لذلك البلد هي هي ذلك الوجه المحدّد، وأطلق على ذلك الوجه أنه نظام الحكومة المقرّر. والدساتير هي الوثائق الأساسية التي تتكفل ببيان ذلك النظام وتقريره، وهي لا غرض من وضعها إلا هذا البيان والتقرير. فكل ما ورد فيها -مما عدا بيان السيادة من جهة مصدرها ومستقرّها ومستودعها – هو نظام الحكومة المقرّر. حتى الحقوق المدنية العامة التي تقرّر عادة في أوائل الدساتير ليست على التحقيق إلا ضوابط تحدّد مدى السيادة وإلى أي حدّ يجب وقوف سلطانها". ويعقب الطاعن على ذلك بقوله إن هذا الحكم ذاته هو الذي استندت إليه محكمة الجنايات في حكمها، وهو لا ينهض حجة لها على صدق نظرها، لأن الطاعن لم يتعرّض لنظام الحكم المقرّر، لا في تفاصيله ولا في مجموعه، وإنما تعرّض فقط لرجل سياسي قبل أن يشكل وزارته وبعد تشكيلها بنقد هو – مهما اختلف في أنه مباح أو غير مباح – مما لا يمكن أن يعتبر طعناً على نظام الحكومة المقرّر. ولو أن كل طعن في الوزارة أو نقدها يعتبر طعناً في نظام الحكومة لوجب حذف النصوص التي تعاقب على إهانة الهيئات النظامية وغيرها مما يشمل الحكومة والوزراء. ثم انتهى الطاعن اعتماداً على ذلك إلى طلب براءته من تهمة الجناية المذكورة وإعادة القضية إلى محكمة الجنايات لنظرها مجدّداً بالنسبة للتهم الباقية التي أدين فيها.
وحيث إن الشارع إذ نص في الفقرة الأولى من المادة 174 من قانون العقوبات على عقاب من يحرّض بإحدى طرق العلانية على "قلب نظام الحكومة المقرّر في القطر المصري أو على كراهته أو الازدراء به" إنما أراد أن يعاقب على الطعن العلني الذي يقصد به تعريض الدستور وكل ما كان الدستور مصدراً له من النظم الأساسية المختلفة التي رسمها لضبط شؤون الحكم في البلاد وتحديدها وإدارتها إلى ما أريد حمايتها منه وهو الحض على قلبها أو كراهيتها أو الازدراء بها. ولم يرد أن يعاقب بهذا النص على الطعن في حكومة بعينها أو وزارة بذاتها أو حكام بأشخاصهم، إذ أن القانون قد قرّر لهذا الطعن، في نصوص أخرى، عقوبات خاصة تحمي هذه الهيئات وهؤلاء الأشخاص. بخلاف النظم الدستورية في ماهيتها فإنها باعتبارها ذوات معنوية بحتاً لا تنطبق عليها النصوص المذكورة كان لا بد لحمايتها من نص خاص. فلذلك وضعت المادة المذكورة لهذا الغرض وحده المدلول عليه بمعناها لغة وبمفهومها فقهاً وبما هو مستفاد من مذكرتها الإيضاحية في جملتها.
وحيث إن الحكم المطعون فيه قد أثبت على الطاعن أنه قارف الأفعال الجنائية المبينة به والتي رفعت بها الدعوى العمومية عليه، واعتبر هذه الأفعال مكوّنة لجنح إهانة الوزارة القائمة وسب وقذف حضرة صاحب المقام الرفيع علي ماهر باشا رئيس مجلس الوزراء بسبب أعمال وظيفته ونشر الأخبار الكاذبة الضارة بالمصلحة العامة, كما اعتبرها هي ذاتها في الوقت نفسه مكوّنة في مجموعها لجناية التحريض على كراهة نظام الحكومة المقرّر في مصر. ثم أدان الطاعن في هذه الجرائم جميعها وعاقبه طبقاً للمواد 171 و174 فقرة أولى و184 و185 و188 و195 و198 و200 و302 و303 فقرة ثالثة و307 من قانون العقوبات، ولكنه قضى عليه وفقاً للمادة 32 من هذا القانون لما ارتآه من ارتباط الجرائم بعضها ببعض بالعقوبات المقرّرة لأشدّها فقط وهي جناية التحريض على كراهة نظام الحكومة. ثم أثبت أن ظروفه وعدم وجود سوابق له تدعو المحكمة إلى أخذه بالرأفة عملاً بالمادة 17 من القانون المذكور.
وحيث إن الحكم ذكر وهو يدلل على توافر عناصر جناية التحريض على نظام الحكومة المقرّر "أنه يتعين أوّلاً تفهم مراد الشارع من عبارة نظام الحكومة المقرّر في القطر المصري الواردة بالفقرة الأولى من المادة 174 من قانون العقوبات ليتسنى بناءً على ذلك تكييف ما ورد في العبارات التي بنت عليها النيابة هذه التهمة، ومعرفة ما إذا كانت تكوّن الجريمة المنصوص عليها في هذه الفقرة أم لا. وأن المادة 174 عقوبات نصت على أنه يعاقب بالسجن مدّة لا تتجاوز خمس سنين وبغرامة لا تقل عن خمسين جنيهاً ولا تزيد على خمسمائة جنيه كل من ارتكب بإحدى الطرق المتقدّم ذكرها فعلاً من الأفعال الآتية: (أوّلاً) التحريض على قلب نظام الحكومة المقرّر في القطر المصري أو على كراهيته أو الازدراء به، وقد كان نص هذه المادة في القانون المصري لسنة 1904 هو من حرض الناس بإحدى الطرق… على كراهة الحكومة الخديوية وبغضها أو على الازدراء بها فجزاؤه الحبس لمدة لا تزيد على سنتين أو غرامة لا تتجاوز مائة جنيه مصري، وتعدّل النص بالقانون رقم 37 لسنة 1923 وأصبح كما هو الآن. وأن عبارة نظام الحكومة المقرّر قد نقلها الشارع المصري عن المادة 138 من مشروع قانون العقوبات المصري الذي عمل في سنة 1918 التي نقلت عباراتها عن المادة (124 حرف أ) من القانون الهندي. وأن معنى كلمة الحكومة أو الحكم في العبارة المذكورة هو الذي قالت به محكمة النقض والإبرام السيادة الفعالة في مظهرها العملي أي السيادة الفعالة المجرية ما تقتضيه طبيعتها من تحقيق سلطانها في الناس. فكل الضوابط والأحكام الكلية التي تحدّد سير السيادة في تحقيق سلطانها في الناس هي التي يتكون منها في مجموعها معنى الحكومة، وتلك الضوابط والأحكام متغيرة متقلبة على صور ووجوه شتى، فكلما تحددت في بلد على أي وجه من الوجوه وبأي كيفية من الكيفيات كانت الحكومة المقرّرة لذلك البلد هي هي ذلك الوجه المحدّد، وأطلق على ذلك الوجه أنه نظام الحكومة المقرّر". ثم عقب الحكم على ذلك بقوله "إن أوّل هذه الضوابط جميعاً بل أسها وقوامها هو تلك الصلة الأولى التي يقتضيها ويستلزمها وجود الدولة ذاته من قيام حكومة تطاع وشعب بطبعها والتي إذا انقطعت بخروج الشعب عليها أو عصيانه لها زالت الدولة من الوجود فيخلو بخروجها الطريق للفوضى – هذه الصلة التي يعبر عنها بضرورة ولاء الشعب للحكومة أياً كان لونها ورأيها وعملها وصفتها، إذ هذا الولاء في الحقيقة يكون موجهاً للدولة التي تمثلها الحكومة مدّة اضطلاعها بأعباء الحكم لا إلى أشخاص الحكام مجتمعين أو منفردين. وإن مهاجمة الوزارة بالذات إطلاقاً أو في شخص رئيسها الذي يمثلها، ويعتبر لذلك ما يقع عليه بصفته واقعاً عليها، إذا تجاوزت الحدّ وبلغت من الإقذاع والإسفاف مبلغاً من شأنه إلقاء العداوة للحكومة في النفوس وزعزعة شعور الشعب بواجب الولاء والطاعة والتلبية لها, وكانت قرائن الحال تشهد على الكاتب أو الناشر بأنه فعل ما فعل عن علم وعمد، فإن هذه المهاجمة تعتبر تحريضاً على كراهة نظام الحكومة المقرّر بغير شبهة. إذ القانون لم يحدّد الصورة أو الصور التي يقوم بها هذا التحريض. وليس فيه ما يمنع أن يكون التحريض مصوغاً في قالب حملة على الحكومة القائمة سواء بصورة مجملة أو على رئيسها ليتعدّاه إليها كلها، أو في أي قالب آخر يرى المحرّض أنه أنسب لغرضه وأليق لغايته، وإنه ينبغي لذلك فهم لفظتي الكراهة (la haine) والازدراء (mépris) الواردتين في النص على أنهما مترادفتان للعداوة والهوان وما جرى مجرى هذين المعنيين من العواطف الجارفة التي تنزع الولاء من النفوس وتحفزها لأن تخون أو تثور على محل عداوتها وأن تعصى وتمتنع على موضع ازدرائها واحتقارها. وبهذا فسر القانون الهندي لفظة الكراهة في المادة (124 حرف أ) وجرى شراحه وقضاته على اعتبار التمييز بين الكراهة بهذا المعنى وبين مجرّد عدم الرضاء أو عدم الموافقة. وهذا التمييز جدير بالاعتبار إذ من الممكن أن يبقى الشخص على ولائه للحكومة ولا شيء يمنعه من انتقاده لأعمالها. فالكراهة تفترق قطعاً عن عدم الموافقة والمخالفة في الرأي وعن مجرّد الخصومة الحزبية التي تفترضها الحياة البرلمانية وطبيعة الرأي العام وما فطر عليه من ميل للتحوّل وما يتبع تحوّله من تغيير الوزارات وتبادل مقاعد الحكم بين الأحزاب تبعاً لتبدل رأي الناخبين فيها. وإن ما تقدّم هو الذي عنته وأشارت إليه المذكرة الإيضاحية للمادة المتقدّم ذكرها بقولها: "وقد استعيض في النص الجديد عن كلمة الحكومة الواردة في النص القديم بعبارة نظام الحكومة المقرر في القطر المصري. وذلك لأن النص القديم كان يمكن تفسيره تفسيراً ضيقاً واعتبار أنه لا يشير إلا إلى الحكومة أي الوزارة القائمة وقتئذٍ. على أي كلمة "الحكومة" يجب إعطاؤها معنى واسعاً، وهي تشمل كل النظم الأساسية للدولة: الوزارة ومجلس النوّاب ومجلس الشيوخ والقضاء والجيش. ومن الواضح أن لكل إنسان الحرّية في نقد النظم الأساسية للدولة بشرط أن يكون الغرض الحقيقي لهذا النقد الوصول إلى إصلاح النظم المذكورة بالطرق القانونية. ولكن إذا كان ينشأ عن النقد التحريض على كراهة نظام الحكومة, والازدراء به يترتب عليه وضع عثرات تعوق الحكومة عن إنجاز الأعمال المنوطة بها في اختصاصاتها الأساسية. وذلك بإلقاء الاضطراب في النفوس وبتحريض الشعب على بغض الحكومة والازدراء بها، فحينئذٍ يكون قد وقع تجاوز لحدود النقد المسموح به, وتجب العقوبة إذا أريد الاحتفاظ بالهيبة والسلطة اللتين لا غنى عنهما للحكومة ولنظم الدولة الأساسية للقيام بالأعمال المنوطة بها". وبما أن واقعة هذه الدعوى تتحصل في أن المتهم وهو رئيس لتحرير جريدة الوفد المصري نشر في هذه الجريدة صوراً رمزية ومقالات تضمنت العبارات المدوّنة في صدر هذا الحكم والتي اعتبرتها النيابة العمومية مكوّنة لجريمة التحريض على كراهة نظام الحكومة المقرّر ولجريمتي سب حضرة صاحب المقام الرفيع علي ماهر باشا وقذفه بسبب أداء أعمال وظيفته. كما نشر بصفته المذكورة بعدد هذه الجريدة رقم 404 الصادر في 20 أغسطس سنة 1939 خبراً عن رجال الجيش، وقد نقل بصدر هذا الحكم أيضاً، اعتبرته النيابة العمومية مكوّناً للجريمة المنصوص عليها في المادة 188 من قانون العقوبات، إذ رأت أن هذا الخبر كاذب ونشر بسوء قصد وأن من شأنه أن يلحق ضرراً بالمصلحة العامة. وبمراجعة هذه المقالات والصور الرمزية تبين أنها تتضمن ما يأتي: أن الأمة تستقبل في علي ماهر باشا عدواً جديداً لمحاربتها وأداة من الأدوات الميسرة للكيد لها. يكفي أن تكون أوّل خطوة في مرحلة هذا الحكم الجديد هي أن أسماء أعضاء الوزارة الجديدة والمرشحين لها قد أرسلت للسفارة البريطانية ليعرف الناس أي نوع من الحكم سيجدون غداً وأي سياسة قد بيتت لمحاربتهم في مبادئهم ومقاومة مشيئتهم. أن علي ماهر باشا عدوّ الشعب رقم ، وأن التاريخ السياسي لم يسجل لعلي ماهر باشا إلا العمل على مناهضة الأمة والتدبير ضدّ مشيئتها وإرادتها كلما سنحت له فرصة في الخفاء حتى لا يكاد انقلاب واحد من الانقلابات الرجعية يخلو من إصبع هذا الرجل الذي تخصص للكيد لهذه الأمة. فقيامه على رأس وزارة الآن لا يمكن إلا أن يكون دليلاً من أدلة استهتار الإنجليز بالشعب المصري وحقوقه وكرامته. أن علي ماهر باشا هو أصل البلوى التي حلت بالبلاد، وهو الرجل الذي يصلح لأن يكون أداة طيعة في يد السياسة الإنجليزية التي تريد التنكيل بالشعب المصري وتريد أن تنشر بالمجاعة بين الفلاحين، وأن تجرّ على هذه الأمة الخراب السياسي والخلقي في سبيل أن تسدّ ما بقي لها من مطامع وأن نعتصر البقية الباقية من دم هذا الشعب بعدما اعتصرت معظمه على أيدي وزارة الحكم الصالح (يراجع نفس العدد). صورة رمزية تمثل جون بول يهم بلبس قناع على صورة ماهر باشا. أن علي ماهر باشا يلهو بمستقبل أمة ويتحكم في أقدار الملايين من أبناء مصر التعسة، وأنه خلق للهدم ولا يؤتمن على الاستقلال والدستور، وأنه كالوطواط الأسود إذا خرج من الظلام إلى النور اختل وتخبط. وقد تأصلت في نفسه غريزة الوقوف وراء الستار يحبك المؤامرات والدسائس في الظلام… وهو في ركنه المظلم المتواضع يشاهد روما وهي تحترق ويبتسم ابتسامته الصفراء. صورة رمزية تمثل رقعة علي ماهر باشا تقذف به قدم منتعلة خارج باب الوزارة وقد كتب تحتها "العاقبة عندكم". صورة رمزية تحت عنوان "الوزارة الجديدة" مثلت فيها الوزارة بباقة من الورد يقدّمها رئيس الحكومة إلى سيدة رمز بها لمصر وقد أشاحت بوجهها قابضة على أنفها بيدها وكتب تحت الصورة "ريحتها باينة قوي وعارفاها من زمان". أن وزارة ماهر باشا كالجنين السقط، وأنها خالية من الكفاءات أو تكاد، وبأنها وزارة يقوم شطرها المستقل على الخلو من الكفاءات وشطرها الحزبي على عنصر الخيانة والتهالك على الوظيفة والتهافت على المناصب (يراجع نفس العدد). أن وزارة رفعة ماهر باشا ثمرة مؤامرة وكيد، ولم يراعَ فيها لا الأمة ولا الدستور ولا الحق ولا الخلق، وأن علي ماهر باشا قد برز إلى مقدّمة الصفوف للمرّة الأولى في حياته الحافلة بضروب الحرب الخفية وصنوف التنكيل بالأمة ودستورها وأخلاقها من وراء ستار. أن الهدية الأولى من علي ماهر باشا إلى الإنجليز في اليوم الثالث من بداية حكمه هي العدول عن بناء الثكنات، وأنه أصبح عند الإنجليز رجل الساعة المطلوب لإتمام تسليم البضاعة… وماذا تصبح المعاهدة بعد هذا الإهداء الذي يهديه علي ماهر باشا لأسياده الأعزاء… لقد فعلها علي ماهر باشا ولكنه سيجد جزاءها، وسيعرف أنه قد اقترف في حق بلاده أسوأ الجنايات السياسية. وبما أن هذه المقالات والرسوم تحوي في صراحة سباً علنياً وقذفاً في حق رفعة علي ماهر باشا رئيس الحكومة إذ رمي فيها بأنه عدوّ الأمة المهيأ لمحاربتها، وأنه أداة للكيد لها، وأنه هو أصل البلوى والأداة الطيعة في يد السياسة الإنجليزية التي تريد التنكيل بالشعب وإفشاء المجاعة بين الفلاحين وجرّ الأمة إلى كل صور الخراب، وأنه يلهو بمستقبل الأمة، وأنه خلق للهدم والتخريب، وأنه دساس متآمر، وأنه لا يؤتمن على الاستقلال والدستور و… و… إلخ. كما صوّره في الصورة الرمزية المنشورة بالعدد رقم 398 ممثلاً للمصالح الأجنبية لا لمصلحة البلاد، وفي الصورة المنشورة بالعدد رقم 402 بأنه تقذف به قدم منتعلة، وفي هاتين الصورتين سب وتحقير لرفعته. وكذلك تحوي هذه المقالات والرسوم إهانة للوزارة الحاضرة كما هو ظاهر من الصورة التي كتب تحتها "ريحتها باينة قوي وعارفاها من زمان" والوزارة هي المعنية بذلك، ومن وصفها بأنها كالجنين السقط غير صالحة للحياة ولا قابلة لها. ومما رميت به من أنها خالية من الكفاءات، وأن شطرها الحزبي قائم على عنصر الخيانة والتهالك على الوظيفة والتهافت على المناصب، وأنها ثمرة مؤامرة وكيد، ولم يراعَ في تأليفها جانب الأمة ولا جانب الدستور ولا الحق ولا الخلق، وأنها وزارة خائنة ومفرطة في حقوق البلاد ومتواطئة مع الإنجليز. وبما أن الإهانة التي وجهت إلى رئيس الحكومة وهيئة الوزارة على الصورة المتقدّمة تعرّض الحكومة من غير شك إلى كراهية الشعب لها وازدرائه إياها، إذ نسب إليها التفريط في حقوق البلاد وعدم المبالاة بالشعب ومصالحه، وأنها إنما كانت ثمرة مؤامرة وكيد ولم يراعَ فيها جانب الأمة ولا جانب الدستور ولا جانب الحق ولا جانب الخلق، وأن رئيسها قد أصبح عند الإنجليز رجل الساعة المطلوب لتسليم البضاعة، إلى غير ذلك من النعوت والأوصاف التي تضمنتها المقالات والصور الرمزية. ولا شك أن نسبة هذه الأمور المشينة إلى الوزارة ورئيسها في الوقت الذي حصلت فيه والحرب على الأبواب والعالم في تحرّج واضطراب – ذلك فيه حض صريح على كراهة الحكومة وتبغيض الأهلين فيها ودعوتهم إلى الازدراء بها على صورة يتحقق بها التحريض على ذات النظام المقرّر للحكومة على الفهم الذي أراده الشارع وفقاً ما تقدّم".
وحيث إن الواقعة الجنائية التي وقعت من الطاعن وأثبتها الحكم المطعون فيه على الوجه المتقدّم هي هي التي يمكن استخلاصها من المقالات موضوع المحاكمة إلا أن الحكم قد أخطأ إذ اعتبر أن هذه الواقعة تكوّن في مجموعها جناية التحريض على كراهة نظام الحكومة المقرّر فضلاً عما تكوّنه وحداتها من جرائم الإهانة والسب والقذف ونشر الخبر الكاذب. ذلك بأن المستفاد من ذات الحكم، وهو الواضح من المقالات التي نشرت، أن الطاعن لم يوجه حملته إلى الدستور ذاته أو إلى النظم ذاتها كما هي مقرّرة في الدستور، بل هو قد أفرغ مطاعنه في قالب إهانة وسب وقذف صريح، وصوّبها إلى ذوات كائنة معينة هي هيئة الوزارة القائمة ورئيس هذه الهيئة وأعضائها بدعوى أنهم خالفوا الدستور. وهؤلاء مهما وجبت لهم الطاعة والاحترام في حدود القانون باعتبارهم حكاماً فإنهم لا يعتبرون جزءاً من النظام المقرّر للحكم بل هم ليسوا إلا قائمين عليه ما داموا حكاماً. وقد تكفل القانون -على القدر الذي رآه – بالحماية الخاصة الواجبة لهم بصفتهم هذه في نصوص أخرى أوردها غير المادة 174 المخصصة لحماية الدستور والنظم المقرّرة فيه للحكم. أما ما قاله الحكم من أن القانون لم يبين طريقة مخصوصة لا يقع بغيرها التحريض على كراهة نظام الحكومة فصحيح، ولكن لا نزاع في أن القانون يوجب على كل حال لقيام هذه الجناية أن يتوافر عنصراها المادّي والأدبي بصدور عبارات من شأنها أن تؤدّي إلى ما نهى القانون عنه من ذلك التحريض وبتوجه النية إلى تحقيق ذلك من وراء هذه العبارات. وما دام الحكم لم يستند في تدعيم النظر الذي ذهب إليه إلا إلى المقالات موضوع المحاكمة، وما دامت هذه المقالات – فرادى أو مجتمعة – لا تفيد عباراتها توافر هذين العنصرين، فإن هذا الذي ذكره الحكم لا يصلح مبرراً لما قال به من قيام هذه الجناية. على أنه وإن صح أن يكون الطعن موجهاً في الظاهر إلى هيئة أو أشخاص معينين ومسدّداً في الواقع إلى ذات النظام للنيل منه إلا أنه يشترط للقول بذلك أن يقوم عليه الدليل من مرامي العبارات ذاتها ومن المقصود منها.
وحيث إنه متى تقرّر ذلك وجب قبول الطعن ونقض الحكم المطعون فيه. وذلك فقط من جهة ما قضى به من اعتبار ما وقع من الطاعن مكوّناً لجناية التحريض على كراهة نظام الحكومة المقرّر. أما من ناحية قضائه بإدانة الطاعن في باقي الجرائم فلا محل للتعرّض لها ما دام الطاعن لم يوجه إلى الحكم أي مطعن بشأنها.
وحيث إنه وإن كانت العقوبات التي أوقعها الحكم على الطاعن هي المقرّرة للجناية التي نقض الحكم بالنسبة ما إلا أنها ما دامت لم توقع عليه إلا وفقاً للمادة 32 عقوبات لما ارتأته المحكمة من ارتباط هذه الجناية بالجرائم الأخرى التي أثبتت عليه مفارقتها فإنه يجب اعتبار هذه العقوبات – بعد زوال الجناية – مقدّرة للجرائم الأخرى ما دامت داخلة في نطاق العقوبات المقرّرة لها في القانون. أما ما لم يكن منها مقرّراً قانوناً لهذه الجرائم، وما ظهر من الحكم بشأنه أن القاضي كان وقت إصداره في حرج بسبب وجود الجناية، فإنه يجب استبعاده لأنه لم يوقع إلا لهذا السبب.
وحيث إنه عن عقوبة الحبس المقضى بها فإن المحكمة وإن كانت قدّرتها للجناية مراعية ظروف الرأفة إلا أنها إنما قدّرتها – حسبما يقضي القانون – على أساس الواقعة الجنائية ذاتها لا على أساس وصفها القانوني. وما دامت الواقعة الجنائية المسندة إلى الطاعن هي هي لم تتغير، وما دامت المحكمة لم تكن وقت إصدار هذه العقوبة متحرّجة بسبب وصف الجناية لأنها لو كانت كذلك لنزلت بها إلى أدنى حدّ حسب المقرّر في المادة 17 عقوبات ولما تجاوزت هذا الحدّ في تقديرها، وما دامت عقوبة الحبس المقضى بها تدخل في نطاق العقوبة المقرّرة لهذه الواقعة موصوفة بالأوصاف الأخرى الواجب معاقبة الطاعن على أساسها، فإن هذه العقوبة يجب اعتبارها كما هي بالنسبة لهذه الجرائم الأخرى. وكذلك الحال بالنسبة لعقوبة نشر الحكم فإنها كما هي مقرّرة للجناية مقرّرة لباقي الجنح الواردة بالحكم. وأما عن عقوبة الغرامة فإنه نظراً لأن الحكم بها ليس إلا جوازياً في كل الجنح التي أدين الطاعن فيها بينما هو وجوبي في جناية التحريض على كراهة نظام الحكومة، ونظراً لأن المحكمة لم تقضِ إلا بالحدّ الأدنى المقرّر لها في الجناية المذكورة – نظراً لذلك يجب استبعادها لمظنة أن توقيعها كان تحرّجاً من المحكمة، ولاحتمال أن المحكمة ما كانت لتوقعها مع عقوبة الحبس لو أنها كانت أعطت الواقعة وصفها القانوني الصحيح. وكذلك بالنسبة لعقوبة التعطيل فإنها مقرّرة في القانون للجناية فقط فيجب استبعادها بعد زوال هذا الوصف.
وحيث إنه ما مع ما تقدّم لا تصح إجابة الطاعن إلى ما طلبه من إعادة القضية إلى محكمة الموضوع للحكم في الجرائم الأخرى بعد استبعاد وصف الجناية إذ أن ثبوت إدانته في هذه الجرائم واستحقاقه للعقوبات التي استبقتها هذه المحكمة لا يجعل محلاً لذلك.

يمكنك مشاركة المقالة من خلال تلك الايقونات