الرئيسية الاقسام القوائم البحث

الطعن رقم 2396 سنة 2 ق – جلسة 19 /12 /1932 

مجموعة القواعد القانونية التي قررتها محكمة النقض والإبرام في المواد الجنائية – وضعها محمود أحمد عمر باشكاتب محكمة النقض والإبرام
الجزء الثالث (عن المدة بين 7 نوفمبر سنة 1932 وبين 26 أكتوبر سنة 1936) – صـ 61

جلسة 19 ديسمبر سنة 1932

برياسة سعادة عبد العزيز فهمي باشا وحضور حضرات محمد لبيب عطية بك وزكي برزي بك ومحمد فهمي حسين بك وأحمد أمين بك.


الطعن رقم 2396 سنة 2 القضائية

( أ ) جنحة مرتبطة بجناية. إجازة القانون إحالتها إلى محكمة الجنايات. إخراجها عن سلطة محاكم الجنح.
(ب) قضية. دخولها في اختصاص جهة من جهات القضاء. وجوب سريان قواعد الإجراءات الشكلية المقرّرة لسير هذه الجهة عليها. جنحة مرتبطة بجناية. إحالتها إلى محكمة الجنايات. خضوعها للقواعد المقرّرة للمحاكمة أمام محاكم الجنايات وللطعن في الأحكام الصادرة منها.
(جـ) المادة 53 من قانون تشكيل محاكم الجنايات. شمول نصها لمن يكون متهماً بجنحة ولمن يكون متهماً بجناية.
(د) القانون رقم 7 لسنة 1914 المعدّل للمادة 224 تحقيق الجنايات. عموم نصه وشموله للمحكوم عليه غيابياً في الجنحة أيضاً.
(هـ) قانون تشكيل محاكم الجنايات. إجازته لمحاكم الجنايات نظر الجنح المرتبطة بجنايات. أحكام الغيبة وسقوط العقوبة التي استبقاها هذا القانون على حالها. وجوب إخضاع أحكامها له.
(و) حكم غيابي. البطلان المنصوص عليه بالمادة 224 من قانون تحقيق الجنايات. شروط هذا البطلان. حضور المحكوم عليه أمام المحكمة. عدم حضوره. وجوب القضاء باعتبار الحكم الأوّل قائماً.
(المادتان 53 تشكيل و224 تحقيق)
1 – إن القانون إذ أجاز إحالة الجنح المرتبطة بالجنايات على محاكم الجنايات فقد وسع اختصاصها وجعله شاملاً لهذه الجنح المرتبطة وأخرجها عن سلطة محاكم الجنح ذات الاختصاص الأصيل فيها.
2 – متى دخلت قضية في اختصاص جهة من جهات القضاء طبقت عليها قواعد الإجراءات الشكلية المقررة لسير هذه الجهة في قضائها، وخضعت لما رتب القانون من طرق الطعن في أحكامها، ما لم ينص على خلاف ذلك. ومقتضى هذا أن الجنحة المرتبطة بالجناية متى أحالها قاضي الإحالة مع الجناية سرت عليها جميع القواعد المقرّرة للمحاكمة أمام محاكم الجنايات وللطعن في الأحكام الصادرة منها. فالمتهم من جهة الجنحة إذا حكم عليه حضورياً فلا استئناف له ولا سبيل أمامه إلا الطعن بطريق النقض، وإذا غاب اتخذت في حقه إجراءات الغياب، وإذا حكم عليه غيابياً فلا معارضة له، بل إذا حضر أو قبض عليه سقط الحكم وأعيدت محاكمته من جديد. [(1)]
3 – إن النص العربي للمادة 53 من قانون تشكيل محاكم الجنايات واضح المعنى ظاهر الشمول، لا تفريق في مدلوله بين من يكون متهماً بجنحة وبين من يكون متهماً بجناية.
4 – إن نص القانون رقم 7 لسنة 1914 المعدّل للمادة 224 من قانون تحقيق الجنايات هو نص عام، فالمحكوم عليه غيابياً في الجنحة يجب عند حضوره تقديمه لقاضي الإحالة، إذا لم يكن سبق حضوره لديه، وقاضي الإحالة يستطيع بعد إعادة النظر في القضية وسماع ما يراه من الإيضاحات أن يصدر قراراً بأن لا وجه لإقامة الدعوى قبله، كما لا مانع يمنعه من إحالته إلى النيابة لتقديمه لمحكمة الجنح دون إعادته إلى محكمة الجنايات، ما دامت الجنحة انفصلت فعلاً عن الجناية السابق الحكم فيها، وما دام أن إحالة الجنحة لمحكمة الجنايات هي في الأصل جوازية صرفة وللقاضي أن لا يأمر بها مهما يكن وجه الارتباط قوياً، وما دام قراره الأوّل قد سقط بقوّة القانون وأصبح هو حراً في الأخذ بأصل الجواز المخوّل له وعدم الأخذ به.
5 – إنه لما جاء قانون تشكيل محاكم الجنايات مفيداً أن أحكام تلك المحاكم نهائية لا استئناف لها ولا معارضة فيها، ومرخصاً لها في نظر الجنح المرتبطة بالجناية إذا أحيلت إليها، مع إبقائه أحكام الغيبة على حالها وأحكام سقوط العقوبة على حالها، فإن مأمورية القاضي تنحصر في فهم هذه الأحكام بحسب ما أصبحت عليه حالة القانون وتوجيهها التوجيه المتفق معه، بحيث إذا شذ منها حكم عما أمر به القانون الجديد فهذا الحكم هو الذي يجب أن يخضع للقانون الجديد ويتأثر به، لا أن القانون الجديد هو الذي يجب أن يخضع لذلك الحكم القديم ويتأثر به.
6 – إن مجرّد القبض على المتهم المحكوم عليه غيابياً أو مجرّد حضوره، إذا كان يترتب عليه، بحسب ظاهر نص المادة 224 من قانون تحقيق الجنايات، بطلان الحكم الغيابي، فإن هذا البطلان مشروط بحضوره أمام المحكمة لإعادة النظر في الدعوى. أما إذا قبض عليه وفرّ قبل جلسة المحاكمة (أو قبل حضوره أمام قاضي الإحالة كما قضت به المادة 224)، أو حضر من تلقاء نفسه مترائياً بأنه سيحضر الجلسة، ولكن لم يحضرها، فإنه لا معنى لسقوط الحكم الأوّل ولا لإصدار حكم جديد عليه، بل الواجب – ما دام أن المحكوم عليه لم يحضر فعلاً أمام المحكمة – أن يقضي بعدم انقضاء الحكم الأوّل وباستمراره قائماً.


المحكمة

بعد سماع المرافعة الشفوية والاطلاع على الأوراق والمداولة قانوناً.
حيث إن الطعن قدّم وبينت أسبابه في الميعاد فهو مقبول شكلاً.
وحيث إن النيابة العامة تقول في مستهل تقرير الأسباب المقدم منها "إنها اتهمت علي عثمان سيد بأنه في يوم 26 مارس سنة 1930 ضرب عبد الحليم محمد، ولارتباط واقعة الجنحة هذه بجناية عاهة مستديمة متهم فيها شخصان آخران "قدّمت القضية لحضرة قاضي الإحالة الذي أحالها بحضور جميع المتهمين إلى محكمة الجنايات بتاريخ أوّل ديسمبر سنة 1931 بالمادة 206 عقوبات بالنسبة لذلك المتهم وحكمت محكمة الجنايات بتاريخ 17 يونيه سنة 1931 في غيبة علي عثمان المذكور بحبسه ستة أشهر مع الشغل طبقاً للمادة 206 من قانون العقوبات وحضورياً بالنسبة للباقين البعض بالعقوبة والبعض الآخر بالبراءة والنيابة أعلنت علي عثمان سيد لشخصه بالحكم الغيابي في 17 سبتمبر سنة 1931 فعارض فيه في نفس اليوم بتقرير في قلم كتاب المحكمة. وبعد ذلك تحدّد يوم 21 مايو سنة 1932 لنظر المعارضة المرفوعة منه. وبالبحث عنه لإعلانه بيوم الجلسة الذي تحدّد لنظر المعارضة لم يهتد إليه ولم يتيسر إعلانه لشخصه أو في محل إقامته فأعلن طلب الحضور للنيابة ونشر في الجريدة الرسمية. وفي يوم الجلسة لم يحضر المتهم فحكمت محكمة الجنايات في غيبته بالحبس مدّة ستة شهور مع الشغل. ثم تقول ما نتيجته أن هذا الحكم الغيابي الصادر في 21 مايو سنة 1932 قد أخطأ في تفسير القانون وتطبيقه أوّلاً لأن المحكمة ضربت صفحاً بالمرّة عن أن الذي كان مقدّما لها إنما هي معارضة من المحكوم عليه في الحكم الغيابي الصادر عليه في 17 يونيه سنة 1931 مما يدل على أنها ترتأي أن المعارضة في الأحكام الغيابية الصادرة من محاكم الجنايات غير مقبولة مع أن هذا الرأي غير صواب لأن المعارضة إذا صح أنها غير مقبولة ممن يقدّم لمحكمة الجنايات متهماً بجناية فتحكم المحكمة غيابياً عليه باعتبار أن ما وقع منه جنحة فإنه لا مانع من قبولها ممن يحال إليها متهماً من الأصل بجنحة فقط فتحكم عليه غيابياً في هذه الجنحة كما هو الشأن في الدعوى الحالية. ثانياً لأنه حتى مع التمشي مع محكمة الجنايات فيما يظهر أنها ارتأته من عدم جواز المعارضة في الأحكام الغيابية التي تصدر من محاكم الجنايات ولو كان المحكوم عليهم غير محالين إليها إلا بتهمة جنحة فقط، فإن حكمها جاء خاطئاً أيضاً لأنه لا معنى لأن تحكم مرة أخرى بعقوبة المتهم الذي لم يحضر لديها بل كان يجب عليها اعتبار الحكم الغيابي الأوّل قائماً. ولذلك فهي تطلب إلغاء الحكم وإعادة القضية لمحكمة الجنايات لتنظر المعارضة المرفوعة من المحكوم عليه ومن باب الاحتياط لتحكم بعدم انقضاء الحكم الغيابي الأوّل وباعتباره قائماً.
هذا. وقد جهدت النيابة العامة جهداً مشكوراً في بحث قيم أوردته في تقريرها تدعيماً لرأيها ولطلباتها.
وحيث إنه بالرجوع للحكم المطعون فيه وجد أنه لا ذكر فيه لمعارضة قدّمت من متهم محكوم عليه غيابياً حكماً سابقاً، بل شوهد أنه من أوّله لآخره لا يتضمن سوى أن قاضي الإحالة قرّر في أوّل ديسمبر سنة 1930 إحالة المتهم علي عثمان سيد على محكمة الجنايات لمحاكمته بالمادة 206 على ضربه عبد الحليم محمد أحمد، وأن المحكمة سمعت مرافعة النيابة وطلباتها في غياب المتهم واطلعت على الأوراق وحكمت عليه غيابياً. وبالرجوع لمحضر الجلسة لم يتبين منه أن هناك معارضة بل هو محرّر كأنما الدعوى لم تنظر إلا لأوّل مرة ولغياب المتهم طلبت النيابة الحكم عليه غيابياً. فظاهر الحكم ومحضر الجلسة الخاص به لا يدل أيهما على وجود معارضة ولا يجعلان وجهاً لما تقوله النيابة. والحكم في ذاته بحالته التي هو عليها حكم قانوني صحيح لا غبار عليه لأن المحكمة لم تفعل شيئاً سوى أنها حكمت غيابياً على متهم قدّمه لها قاضي الإحالة. ولكن بالرجوع لملف الدعوى وما فيها من الأوراق الرسمية (خصوصاً وأن الحكم نفسه قيل في ديباجته إن علي عثمان سيد هذا متهم هو وآخر سبقت تبرئته بضرب عبد الحليم محمد وإن المحكمة اطلعت على الأوراق) شوهد حقيقة أن هناك حكماً سابقاً صدر في الدعوى نفسها من محكمة الجنايات في 17 يونيه سنة 1931 على جملة متهمين بعضهم بجناية وبعضهم بجنحة ومن ضمن المحكوم عليهم علي عثمان سيد وقد حكم عليه غيابياً في ذات الجنحة المسندة إليه وبرئ منها أخ له اسمه محمد عثمان سيد، كما شوهد أن هناك تقريراً تحرر بقلم الكتاب من علي عثمان سيد في 17 سبتمبر سنة 1931 بالمعارضة في الحكم الغيابي المذكور ثم تحددت فيما بعد جلسة 21 مايو سنة 1932 لنظر المعارضة وكلف بالحضور فيها بإعلان إلى النيابة نشر في الجريدة الرسمية لعدم تيسر الإعلان إليه شخصاً أو إلى محل إقامته.
وحيث إنه يجدر بالمحكمة قبل تقدير قيمة ما أظهره الاطلاع على ملف الدعوى من وجود معارضة في الواقع أن تبحث النظرية التي أسست عليها النيابة طلبها الأصلي لما لهذا البحث من التأثير في ذلك التقدير.
عن الطلب الأصلي والنظرية التي أسس عليها:
حيث إن محاكم الجنايات وإن كانت في الأصل غير مختصة إلا بنظر الجنايات كما يعلم من المادة الأولى من قانون تشكيلها إلا أن المادة من هذا القانون أجازت لقاضي الإحالة إذا رأى في القضية التي تقدّمها له النيابة بمقتضى المادة جنحة مرتبطة بالجناية أن يحيل هذه الجنحة إلى محكمة الجنايات في نفس الأمر الذي يصدره بشأن الجناية. ولم يفرق القانون في هذه الجنحة بين ما إذا كان المتهم بها هو المتهم بالجناية نفسه وما إذا كان شخصاً آخر غير متهم إلا بها، وهذا أمر مسلم به لدلالة النص في عمومه عليه.
وحيث إن القانون إذ أجاز إحالة الجنح المرتبطة بالجنايات على تلك المحاكم فقد وسع اختصاصها وجعله شاملاً لهذه الجنح المرتبطة المحالة وأخرجها عن سلطة محاكم الجنح ذات الاختصاص الأصيل فيها.
وحيث إن من القواعد الثابتة أنه متى دخلت قضية في اختصاص جهة من جهات القضاء طبقت عليها قواعد الإجراءات الشكلية المقررة لسير هذه الجهة في قضائها وخضعت لما رتب القانون من طرق الطعن في أحكامها ما لم ينص على خلاف ذلك. وهذا هو مفهوم المادتين الأولى والثانية من القانون نمرة 4 لسنة 1904 الصادر في 19 فبراير سنة 1904 بتنفيذ قانون تحقيق الجنايات والمفهوم بالضرورة من أن للمشرع التعميم والتخصيص فيما يضعه من الأحكام.
وحيث إن مقتضى هذا هو أن الجنحة المرتبطة بالجناية متى أحالها قاضي الإحالة مع الجناية سرت عليها جميع القواعد المقرّرة للمحاكمة أمام محاكم الجنايات وللطعن في الأحكام الصادرة منها.
وحيث إن قانون تشكيل محاكم الجنايات وضع أحكاماً خاصة لطريقة تشكيل المحكمة وكيفية الإحالة إليها ولطريقة إعلان الشهود ومبلغ حقوق الأخصام وواجباتهم في هذا وحق المحكمة في تعديل التهمة وتشديدها، ثم عقد باباً خاصاً بإجراءات الجلسة أورد فيه كيف تبدأ الجلسة ثم نص في المادة 44 منه على أن الإجراءات فيها تكون كالمقرّر لدى محاكم الجنح إلا مسائل استثناها وأمر بأن يتبع فيها ما ذكر في المواد التالية، منها إمكان المعارضة في سماع الشهود الذين لم يعلنوا طبق قانون التشكيل نفسه (مادة 45) وإمكان استدعاء أي شاهد فوراً ولو بالقبض عليه (مادة 46) والحكم على الشهود المتخلفين والممتنعين عن الإجابة بعقوبات مغلظة (مادة 47/ 2) ووجوب الفصل في التضمينات التي تطلب من المتهم أو يطلبها هو في ذات الحكم الصادر في الدعوى (مادة 50/ 2) وتحديد طريق واحدة للطعن في أحكام محاكم الجنايات هي طريق النقض والإبرام (مادة 52) أما المتهم الغائب فلم يجعل له حق المعارضة بل أوجب أن تتبع في حقه أحكام الغيبة (Contumace) المقررة في قانون تحقيق الجنايات (مادة 53). فجميع الأحكام التي وردت بهذا القانون تسري في حق المتهمين بما هو مرفوع لمحكمة الجنايات من الجنح المرتبطة كما تسري على المتهمين أمامها بجنايات سواءً بسواء بلا فرق ولا تمييز. فالمتهم بالجنحة له مثلاً أن يطعن بالنقض في تشكيل المحكمة إن كان مختلاً كما يطعن المتهم بالجناية، وشهود النفي الذين يدل عليهم المتهم بالجنحة مثلاً لا يدفع مصاريف لإعلانهم بل تعلنهم النيابة بأمر القاضي (مادة 17). وكذلك تعلن إليه النيابة أسماء شهود الإثبات الجدد قبل الجلسة (مادة 20) وللمحكمة مثلاً تعديل تهمة الجنحة بإضافة ظرف مشدّد إليها أو بجعلها جناية أو غير ذلك من وجوه التعديل في حدود المادة وإذا طلب هذا المتهم بالجنحة أو طلبت منه تضمينات مثلاً وجب على المحكمة أن تفصل في ذلك في الحكم نفسه، وهذا المتهم بالجنحة إذا حكم عليه حضورياً فلا استئناف له ولا سبيل أمامه إلا ما أجازه القانون وهو الطعن بطريق النقض وإذا غاب اتخذت في حقه إجراءات الغياب وإذا حكم عليه غيابياً فلا معارضة له بل إذا حضر أو قبض عليه سقط الحكم وأعيدت محاكمته من جديد.
وحيث إن النيابة تعمد من بين تلك الأحكام العامة إلى حكم المادة وتنكر عمومه قائلة إنه خاص بالمتهم في جناية. أما المتهم في جنحة فقط فلا يشمله بل إن إجراءات محكمة الجنح تسري عليه إذا غاب فتحكم عليه محكمة الجنايات حكماً غيابياً (Jugement par défaut) يكون قابلاً للمعارضة أمامها فيه كما لو كان صادراً من محكمة الجنح، ومتى عارض قبلت معارضته وحكمت فيها بما يقضي به القانون كما تحكم محكمة الجنح. وها هو ملخص حججها في ذلك والرد على كل منها.
(أوّلاً) تقول النيابة العامة إن نظام المعارضة لا يتعارض مع نظام محاكم الجنايات بدليل ما سار عليه الفقه والقضاء في فرنسا من قبول معارضة المدّعي بالحق المدني والمسئول مدنياً إذا حكم عليهما غيابياً، وما دام لا تعارض بين النظامين ضعفت بل انهارت حجج القائلين بعدم قبول المعارضة من المتهم بجنحة مرتبطة بجناية.
وهذه مجرّد شبهة وهي مردودة. لأن المسألة ليست معرفة ما إذا كان نظام المعارضة يتمشى مع نظام محاكم الجنايات أو لا يتمشى كما أنها ليست مسألة تدبير مخرج من مأزق لم يرد في شأنه حكم كما هو الحال عند الفرنسويين في المدّعي المدني والمسئول مدنياً إذا حكم غيابياً لغير مصلحتهما بل المسألة هي تفسير نص في القانون ورد بصيغة عامة شاملة ويراد تخصيصه. وشتان في شبهة النيابة ما بين الدليل وهذا المستدل عليه.
(ثانياً) تقول النيابة إن النص الفرنسي للمادة قد عبر فيه بعبارة (L’accusé défaillant) عن المتهم الغائب الذي تطبق عليه أحكام الغيبة (Contumace) وأن لفظ (Accusé) لا يطلق في عرف أهل القانون إلا على المتهم بجناية دون المتهم بجنحة وإذن يستمر المتهم بجنحة سارية عليه إجراءات الجنح لأنه غير مستثنى بالمادة من حكم المادة ، ويكون الحكم الغيابي الصادر عليه هو (Jugtment par défaut) جائزة فيه المعارضة لأن إصدار هذا الحكم الغيابي والمعارضة فيه هما من الإجراءات التي نصت المادة المذكورة على اتباعها.
لكن هذه الحجة مردودة لما يأتي:
أوّلاً – لا نزاع في أن من تتهمه النيابة بجنحة مرتبطة وتقدّمه لقاضي الإحالة مع المتهمين بالجناية لا بدّ لها من أن تذكر اسمه في تقرير الاتهام وتبين الفعل المسند إليه وتعلن إليه هذا التقرير وقائمة الشهود تنفيذاً للمادة من القانون. ومن يراجع النص الفرنسي للمادة المذكورة يجد فيه التعبيرات الآتية:
"… Acte indiquant les faits à la charge de l’accusé ou de "chacun des accusès… Copie de cet acte et de… sera notifier" "á chacun des accusés."
فكلمة (accusé) استعملها واضع النص في هذه المادة للدلالة على المتهم بالجناية وعلى المتهم بالجنحة المرتبطة معاً ورأى من التزيد أن يردفها بكلمة (Prévenu) معطوفة عطف مغايرة. ثم استعملها أيضاً بهذا المعنى الشامل في المواد (11 و12) وغيرها من مواد القانون. وآخر مادة استعملها فيها قبل المادة هي المادة التي قال فيها:
"Si la cour estime qu’il a été établi a la charge de l’accusé"
"soit l’inculpation prévue à l’ordonnance de renvoi"
"soit un autre crime ou délit satifaisant"
"elle déclarera l’accusé coupal"
ولا شبهة في أن كلمة (Accusé) هنا شاملة في مدلولها للمتهم بالجناية وللمتهم بالجنحة معاً. فمما لا يقبل إذن أن يكون واضع النص الفرنسي استعمل في جميع المواد تلك الكلمة بهذا الشمول ثم يتراجع فجأة في المادة فيستعملها في المعنى الخاص الذي تقول به النيابة.
ثانياً – إن لفظ (Accusé) هو هو الذي استعمله قانون تحقيق الجنايات الفرنسي في المادة المقابلة للمادة من قانون تشكيل محاكم الجنايات وهو هو نفسه الذي استعمله في باب الغيبة (Contumace) بالمواد 465 وما بعدها (المقابلة للمواد 215 وما بعدها من قانون تحقيق الجنايات الأهلي). واستعماله إياه غير مصحوب بلفظ (Prévenu) الذي جرى الاصطلاح على إطلاقه على المتهمين بجنحة أو مخالفة لم يمنع الفقهاء ولا المحاكم في فرنسا من استقرار رأيهم على أن أحكام الغيبة (Contumace) كما تطبق على المتهم بجناية تطبق على المتهم بجنحة مرتبطة. والنيابة العامة في تقرير الأسباب المقدّم منها مسلمة بهذا. وليس معنى استقرار رأيهم على ذلك أنهم أضافوا على قانونهم ما ليس فيه ولكن معناه أنهم رأوا أن القانون استعمل هذا اللفظ من باب الأولوية والتغليب لأن الأصل هو أن لا يحال إلى محكمة الجنايات إلا المتهمون بجنايات ومن النادر إحالة المتهمين بالجنح عليها. واللفظ في أصل معناه اللغوي يتسع لرأيهم لأن فعل (Accuser) يفيد بحسب وضعه اللغوي الاتهام بجريمة من جناية أو جنحة أو مخالفة بل الاتهام بأي أمر غير محمود ولو كان لا إجرام فيه.
ثالثاً – لأن النص العربي ورد فيه "المتهم الغائب تحكم في غيبته إلخ" ولفظ "المتهم" واضح المعنى لا غموض فيه، ظاهر الشمول لا تفريق في مدلوله بين من يكون متهماً بجنحة ومن يكون متهماً بجناية، بل كل منهما متهم لا يعبر عنه بغير هذا اللفظ ولو كان مراد القانون ما تقوله النيابة لما كان أسهل عليه من أن يقول "إذا غاب المتهم بجناية" أو "كل متهم بجناية غاب" أو "المتهم بجناية إذا غاب تحكم محكمة الجنايات في غيبته إلخ…." ولما فاته مطلقاً التخصيص بأمثال تلك التعبيرات في مثل هذا الموطن الذي يترتب على الإيضاح أو الإغماض فيه إيجاد وجه طعن أو سلبه وما هذا الإيجاد أو السلب بالضئيل من الشؤون. وما دام النص العربي واضح الدلالة بهذه المثابة فهو الواجب العمل به وبما يفيده من المعنى بغير حاجة للرجوع إلى النص الفرنسي لمعالجته ومعرفة ما إذا كانت كلمة (Accusé) قد استعملت فيه بمعناها العام أم بمعناها الخاص.
(ثالثاً) تقول النيابة إن القول بعدم شمول نص المادة ليس بدعاً بل إن قانون تشكيل محاكم الجنايات نفسه فيه أحكام خاصة بتعيين المدافعين عن المتهمين (مادة 25) وما بعدها وهذه الأحكام مع عموم نصوصها لا تنطبق على المتهمين في جنح وهذا هو المفهوم الجاري عليه العمل من قبل صدور الدستور وقد تأيد بالدستور الذي لم يوجب تعيين المدافعين إلا لمن يتهم بجناية.
وهذه الحجة أيضاً مردودة لأن وجود مدافعين عن كافة من يقدّمون لمحكمة الجنايات من متهمين بجنح أو متهمين بجنايات أمر واجب لعموم عبارة النصوص الخاصة بذلك. والنيابة العامة في تقرير الأسباب مسلمة بأن هذا هو المتبع في فرنسا التي رجعت في كثير من تقريرها إلى أقوال فقهائها وأحكام محاكمها. ولئن كان المتبع عندنا قبل الدستور هو عدم إيجاب المدافعين عن المتهمين بجنح فليس هذا كما قد يلوح إلا تساهلاً استمر ولم يطعن بعدم قانونيته مطعن جدّي حتى كان الدستور فأقر هذه العادة ضمناً وسدّ سبيل الشكوى منها. على أنه شتان ما بين هذا وإنشاء طريق طعن وهو المعارضة في موطن لا يجيزه فيه القانون.
(رابعاً) تقول النيابة إنه سبق أن صدرت أحكام من محاكم الجنايات بقبول المعارضة في الأحكام الغيابية الصادرة منها على متهمين قدّموا لها في جنح وإن محكمة النقض ذكرت عرضاً في بعض أحكامها أن مثل هذه المعارضة جائزة. وهذه أيضاً حجة لا قيام لها فإنه لا يوجد أي حكم بحث هذه المسألة بحثاً جدياً خاصاً بل الحكم الوحيد الذي تعرض لها اقتصر على ذكر جواز المعارضة ذكراً مجرّداً كأنه مبدأ مقرر مسلم به.
(خامساً) تقول إن القانون رقم 7 لسنة 1914 إذ أوجب إعادة المحكوم عليه في غيبته إلى قاضي الإحالة عند حضوره أو القبض عليه إن لم يكن حضر لديه من قبل قد خالف القانون الفرنسي ودل على أن الحكم الغيابي لا بد أن يكون صدر في جناية. إذ من جهةٍ لا يعقل أن يكون صدر في جنحة ومع ذلك يرده الشارع إلى قاضي الإحالة لأن هذا القاضي لا يحيل إلى محكمة الجنايات جنحة على وجه الاستقلال ولو كانت فيما سبق مرتبطة بجناية وزال هذا الارتباط. كما أنه يبعد من جهة أخرى أن يكون قصد الشارع في هذه الحالة أن تعاد إجراءات الدعوى لدى محكمة الجنح خصوصاً إذا لوحظ أن من المصلحة إعادتها أمام محكمة الجنايات لأن علاقة الارتباط كما تؤثر في الجناية تؤثر في الجنحة، وأن في الإعادة أمام محكمة الجنح تطويلاً في الوقت وإضاعة له.
وهذه الشبهة أيضاً مردودة لأن نص القانون رقم 7 لسنة 1914 في هذا الصدد هو أيضاً نص عام. فالمحكوم عليه غيابياً في الجنحة يجب عند حضوره تقديمه لقاضي الإحالة إذا لم يكن سبق حضوره لديه. وقاضي الإحالة يستطيع بعد إعادة النظر في القضية وسماع ما يراه من الإيضاحات أن يصدر قراراً بأن لا وجه لإقامة الدعوى قبله كما لا مانع يمنعه من إحالته إلى النيابة لتقديمه لمحكمة الجنح – على خلاف المفهوم مما تقوله النيابة – دون إعادته إلى محكمة الجنايات ما دامت الجنحة انفصلت فعلاً من الجناية السابق الحكم فيها وما دام أن إحالة الجنحة لمحكمة الجنايات هي في الأصل جوازية صرفة وللقاضي أن لا يأمر بها مهما يكن وجه الارتباط قوياً، وما دام قراره الأوّل قد سقط بقوّة القانون وأصبح هو حراً في الأخذ بأصل الجواز المخوّل له وعدم الأخذ به.
(سادساً) تقول إن القانون المصري انفرد بالنص على أحكام الدعوى المدنية في موضوع الغيبة وحدّد في هذا الشأن خمس سنين ولا يمكن أن ينصرف هذا إلا إلى الجنايات التي تعاد الإجراءات فيها في مدى عشرين أو ثلاثين سنة من تاريخ الحكم الغيابي. أما الجنح فإن قيل بسريان أحكام الغيبة عليها فلا تعاد الإجراءات فيها إلا في مدى خمس سنين فإذا انتهت فإنه لا يكون للمحكوم عليه أي فرصة للتخلص لا من الحكم المدني ولا من الحكم الجنائي ونتيجة ذلك أن حظ المتهم بجناية يكون خيراً من حظ المتهم بجنحة. وهذه النتيجة تفيد أن أحكام الغيبة لا تتمشى على المتهمين بالجنح.
وهذا الاعتراض غير واضح فإن المادة إذا كانت جعلت تقدير التضمينات نهائياً لا يصح النزاع فيه إذا مضت خمس سنوات فإن حكمها هذا لا غضاضة في أن يكون عاماً في النوعين. فهو يتمشى مع الجنحة كما يتمشى مع الجناية إذ الخمس السنوات هي أيضاً مدّة سقوط عقوبة الجنحة فإذا مضت وسقطت تلك العقوبة أصبح الحكم نهائياً غير قابل لإعادة النظر فيه. فمن الطبعي أن أثر ذلك هو أنه لا يجوز للمحكوم عليه لا استرداد ما سبق دفعه من التضمينات ولا عدم دفع ما بقى منها لأن المنازعة في هذا تقتضي إعادة النظر في الفعل الجنائي الذي ترتبت عليه التضمينات والذي أصبح الحكم فيه نهائياً لا عودة فيه والقانون أراد منع ذلك. إنما كان يصح اعتراض النيابة لو أن القانون جعل مدّة نهائية التضمينات وعدم إمكان المنازعة فيها أزيد من خمس سنين، إذن لقيل إن هذا يصطدم بقوة الحكم النهائي في الجنحة. هذا من جهة ومن جهة أخرى فإن المتهم بالجناية إذا كان لا يدفع ما بقي بغير دفع متى أعيد النظر بعد مضي الخمس السنوات وبرئ من التهمة فذلك ليس آتياً من أن تقدير التضمينات لم يصر نهائياً بالنسبة له بمجرّد مضي الخمس السنوات بل هو آت من فكرة أنه متى حكم ببراءته أصبح من غير المعقول أن يدفع ما بقي بل يكفيه ضرراً أنه لا يستردّ ما دفع. وواضح أن هذا الضرر – الذي أصابه بدون وجه حق وهو بريء – لا ميزة له فيه على المتهم بالجنحة حتى يصح اعتراض النيابة.
(سابعاً) تقول إن الذي يلتئم مع المادة من المادتين (276 و277) الخاصتين بسقوط العقوبة هي المادة الخاصة بالجنايات لأنها تجعل مبدأ السقوط من تاريخ الحكم ولو كان غير نهائي أما المادة الخاصة بالجنح فتقتضي أن يكون الحكم نهائياً.
وهذه الملاحظة لا تفيد كثيراً ولا قليلاً في حل الإشكال المنظور فيه، فإنه قبل تشكيل محاكم الجنايات لم يكن ظاهر القانون يصرح لقاضي التحقيق ولا للنيابة من بعده أن يحيل أيهما جنحاً إلى محكمة الجنايات يكون جناتها غير متهمين بجناية بل كل جان كان يحال إلى المحكمة المختصة بنوع جريمته (مادة 119 و43 تحقيق جنايات). كما أن الجنايات كانت كالجنح تنظر في درجتين، فكان طبعياً أن كافة النصوص الواردة في باب أحكام الغيبة تكون موضوعة للمتهم بجناية إذا غاب، وطبعياً أيضاً أن النصوص الواردة فيه فيما يتعلق بسقوط العقوبة بمضي المدّة تتلاءم مع أنظمة المحاكمة ومع أحكام الغيبة. ولكن لما جاء قانون تشكيل محاكم الجنايات مفيداً أن أحكام تلك المحاكم نهائية لا استئناف لها ولا معارضة فيها ومصرحاً لها بنظر الجنح المرتبطة بالجناية إذا أحيلت إليها مع إبقائه أحكام الغيبة على حالها وأحكام سقوط العقوبة على حالها فإن مأمورية القاضي تنحصر في فهم هذه الأحكام بحسب ما أصبحت عليه حالة القانون وتوجيهها التوجيه المتفق معه بحيث إذا شذ منها حكم عما أمر به القانون الجديد فهذا الحكم هو الذي يجب أن يخضع للقانون الجديد ويتأثر به لا أن القانون الجديد هو الذي يجب أن يخضع لذلك الحكم القديم ويتأثر به. وبما أن المادة إذ نصت على سقوط عقوبة الجنحة بخمس سنوات من اليوم الذي صار فيه الحكم الابتدائي غير قابل للمعارضة ولا الاستئناف، فإن حصلت معارضة أو استئناف فمن يوم صدور الحكم الانتهائي – إذ نصت على ذلك فقد أفادت بصفة كلية عامة أن تلك المدّة تبدأ من يوم نهائية الحكم. وبما أنه لا استئناف لأحكام محاكم الجنايات ولا معارضة فيها فحكمها نهائي من وقت صدوره. ونهائيته مؤكدة إذا كان حضورياً، فإن كان غيابياً فنهائيته حاصلة تحت شرط فاسخ هو حضور المحكوم عليه لا فرق في ذلك بين الجناية والجنحة. وإذن فالعقوبة المقضى بها تبتدئ مدّة سقوطها من وقت صدوره وتكون هي المدة المقرّرة في المادة للجنايات وفي المادة للجنح بقطع النظر عما في نصوص هاتين المادتين مما يثير الشبه، كما أنه لا محيص من سحب المادة على الحكم الغيابي الصادر في الجنحة خصوصاً ونصها من قبل تعديل سنة 1914 ومن بعده متسع لهذا الانسحاب.
(ثامناً) جعل الشارع جنح الصحافة من اختصاص محاكم الجنايات وأخضعها للإجراءات الخاصة بمواد الجنح؛ وفي أمره باتباع الإجراءات المقرّرة لمواد الجنح عامة لم يذكر جواز المعارضة بالذات كما ذكره المشرع الفرنسي في قانون الصحف. وفي هذا دليل على عدم تعارض نظام المعارضة مع نظام محاكم الجنايات.
هكذا تقول النيابة والرّد على ذلك مفهوم مما أسلفنا من أن المسألة ليست مسألة تعارض أنظمة وإنما هي مسألة إيجاد وجه طعن لم يرتبه الشارع. وإذا كان الشارع حين جعل بعض الجنح الصحفية من اختصاص محاكم الجنايات بصفة استثنائية أوجب أن المرافعات تتبع فيها النصوص المقرّرة أمام محكمة الجنح ولم يستثن إلا جواز الاستئناف، فإن من النصوص المقرّرة أمام محاكم الجنح أن المتهم إذا غاب تحكم عليه المحكمة غيابياً (Jugt par défaut) وتجوز له المعارضة، ولكن قانون تشكيل محاكم الجنايات نص صراحة على أن المتهم الغائب يحكم في غيبته (Par contumace) وذلك استثناء من قواعد الإجراءات لدى محكمة الجنح. وإذن فالنص في القانون المصري الخاص بجنح الصحافة يجيز المعارضة في الجملة ضمناً وحتماً مثل ما أجازها الشارع الفرنسي بالتعيين صراحة كما أنه في أصل قانون تشكيل محاكم الجنايات يمنعها بمفهومه الصريح كما منعها الشارع الفرنسي بمفهوم نصوصه.
(تاسعاً) تقول إن فائدة أحكام الغيبة إطالة مدة سقوط الدعوى العمومية والقول بإطالة هذه المدة في الجنحة لمجرّد ارتباطها بالجناية لا يقرّه القانون ولا العدل. وقد أفاضت النيابة في بيان وجهة نظرها إفاضة طويلة ولكن كل كلامها في هذا الصدد لا يغني.
فأما أن القانون لا يطيل تلك المدّة بالنسبة للجنحة فهذا هو محل النزاع وموطن النظر. ولم تأت النيابة بدليل واضح من القانون يسيغ هذه الدعوى بل القانون في عموم نصه مخالف لنظريتها. وأما أن العدل لا يرضى ذلك فإنه أينما وجد القانون فهناك العدل القضائي. أما العدل المطلق فلا وجود له.
(عاشراً) تقول النيابة إن المادة تنص على أنه إذا لم يتيسر القبض على المتهم أو قبض عليه وفرّ قبل حضوره أمام محكمة الجنايات تحكم المحكمة في غيبته إذا لم يسلم نفسه للحبس قبل الجلسة، وإن في هذا النص إشارة إلى وجوب أن تكون التهمة جناية لأن هذا هو المتفق مع المادة من ذلك القانون التي كانت تقضي بوجوب القبض دائماً على المتهم بجناية عند إحالته لمحكمة الجنايات. أما المتهم بجنحة فما كانت المادة تأمر بالقبض عليه فكان يجوز أن يحضر أمامها طليقاً وإذن لا تكون حالته مصداقاً للمادة التي أشارت إلى من تتخذ في حقه أحكام الغيبة. ولا يمنع من صحة هذا النظر أن المادة من قانون تشكيل محاكم الجنايات أتت معدّلة للمادة لأن التعديل الذي أتت به خاص بقواعد الحبس الاحتياطي لا بقواعد الغيبة. وقد أفاضت النيابة أيضاً في بيان وجهة نظرها في هذا الصدد.
والردّ على ذلك أن القانون الفرنسي الذي رجعت النيابة إلى أقوال فقهائه ومذهب أحكامه في مواطن كثيرة من تقريرها يقضي أيضاً بأن غرفة الاتهام تصدر أمراً بالقبض والسجن على المتهم الذي تحيله إلى محكمة الجنايات (مادة 232 و233 المقابلتين للمادة 115 مصري). والمادة منه المقابلة للمادة (215 مصري) تنص أيضاً في جملتها بمعنى ما تنص عليه هذه المادة المصرية. ومع ذلك فإن تلك النصوص عندهم لم تمنعهم من القول بعدم جواز المعارضة في الحكم الغيابي الصادر في الجنحة. وعلى كل حال فإن نص المادة من قانون تشكيل محاكم الجنايات يشمل كما أسلفنا حالة المتهم بالجنحة كما يشمل حالة المتهم بالجناية ويجب تنفيذاً له اتباع أحكام الغيبة (contumace) في حق المحكوم عليه في جنحة ولو كانت هذه الأحكام لم توضع في الأصل إلا للمتهم بالجناية دون المتهم بالجنحة.
هذا وإن المحكمة لتقدر للنيابة ما قامت به من المجهود الفني العظيم في سبيل تأييد نظريتها. وكما تتأفف النيابة ويتأفف الفقهاء الفرنسيون الذين نقلت عنهم من عدم تقرير نظام المعارضة في الأحكام الغيابية التي تصدر من محاكم الجنايات على متهمين لم يحالوا إليها إلا في جنحة فقط كذلك تتأفف هذه المحكمة من هذا الحرج لما تراه في تقرير هذا النظام من تبسيط العمل وسرعة إنهاء الدعوى العمومية وصيرورة الحكم الصادر فيها نهائياً في زمن وجيز بصفة مؤكدة لا شرط فاسخاً فيها. ولكن هذه المحكمة لا تستطيع مع الأسف أن تجيز هي المعارضة ضاربة صفحاً عما في نص المادة من التعميم بل الذي يجيزها هو الشارع نفسه. ولذلك فمن المرغوب فيه كل الرغبة أن يسارع أولو الشأن إلى السعي في تعديل تلك المادة بما يجعل حكمها مقصوراً على المتهمين بجنايات دون المحامين في جنح مرتبطة فقط.
وحيث إن الحكم المطعون فيه لم يبين أن هناك معارضة حصلت من المتهم بل أتى كأنه صادر لأوّل مرة في حق متهم غائب، وهذا الوضع كان يبيح لمحكمة النقض أن ترفض الطعن لصحة الحكم ظاهراً كما أنه كان للمحكمة أن تعيد الدعوى للفصل في المعارضة بعدم جوازها اعتماداً على أن ذلك الحكم ذكر في صدره أن المحكمة اطلعت على أوراق القضية وعلى أن هذه الأوراق تفيد صحة ما ذكرته النيابة من وجود المعارضة فعلاً. ولكن ما دامت المعارضة غير جائزة فيكفي في خصوصية هذه الدعوى أن تنوّه محكمة النقض بذلك بلا حاجة للإحالة على محكمة الموضوع.
وحيث إنه ما دامت المعارضة غير جائزة فلا يبقى إلا النظر في الطلب الاحتياطي الذي تطلبه النيابة.
عن الطلب الاحتياطي:
وحيث إن الواقع هو أن مجرّد القبض على المتهم المحكوم عليه غيابياً أو مجرّد حضوره إذا كان يترتب عليه بحسب ظاهر نص المادة بطلان الحكم الغيابي فإن هذا البطلان مشروط بحضوره أمام المحكمة لإعادة النظر في الدعوى. أما إذا قبض عليه وفرّ قبل جلسة المحاكمة (أو قبل حضوره أمام قاضي الإحالة كما قضت به المادة 224) أو حضر من تلقاء نفسه مترائياً بأنه سيحضر الجلسة ولكن لم يحضرها فإنه لا معنى لسقوط الحكم الأوّل ولا معنى لإصدار حكم جديد عليه. والقول بخلاف ذلك تترتب عليه نتيجة لا يقبلها العدل تلك هي أن المحكوم عليه في جناية مثلاً لو قبض عليه أو حضر في السنة التاسعة عشرة من تاريخ الحكم الأوّل ثم فرّ قبل جلسة الإعادة وحكم عليه غيابياً كان هذا الحكم لا يبطل إلا إذا لم يقبض عليه أو لم يحضر في مدى عشرين سنة أخرى، فإن حضر أو قبض عليه وفرّ تجدّد الحكم الغيابي وتحدّدت المدّة وهكذا يبقى إلى حين وفاته متكررة الأحكام في حقه متكررة مدة سقوط عقوبته. ومثله المحكوم عليه في الجنحة إن فعل فعله. وهذا التأبيد وتكرر الأحكام والعقوبات ومدد سقوطها لا يتفق شيء منها ومبادئ القانون. وإذن فالواجب في مثل هذه الصورة التي لا يحضر فيها المحكوم عليه أمام المحكمة أن يقضي بعدم انقضاء الحكم الأوّل وباستمراره قائماً كما تقول النيابة بحق. ولذلك تتعين إجابة هذا الطلب الاحتياطي.
فبناء عليه
حكمت المحكمة بقبول الطعن شكلاً وفي الموضوع بنقض الحكم المطعون فيه وبعدم بطلان الحكم الصادر في 17 يونيه سنة 1931 في غيبة علي عثمان سيد وباعتبار أنه لم يزل قائماً.


[(1)] أبدت محكمة النقض في هذا الحكم رغبتها في أن يسارع أولو الشأن إلى السعي في تعديل المادة 53 من قانون تشكيل محاكم الجنايات بما يجعل حكمها مقصوراً على المتهمين بجنايات دون المحالين في جنح مرتبطة فقط.

يمكنك مشاركة المقالة من خلال تلك الايقونات